كأنك بيتي الأخير

شهرزاد


بعض الحكايات تشبه الأوطان الآمنة، وبعضها الآخر يشبه البيوت الدافئة، وأنت كنت وطني الأول الذي رفضت روحي التأقلم مع كل الأوطان بعده، وبيتي الأخير الذي لم تهدمه ذاكرتي رغم كل عمليات الهدم التي مارستها عليَّ الحياة..
لكني لم أدرك ذلك إلا بعد أن تعرضتُ لنوبات برد داخلية بشكل مؤلم ومتكرر، فكل المنازل التي عشت فيها بعدك كانت باردة حد الصقيع، وكانت الرياح تصفر في زواياها بصوت مرتفع كأنها أنثى تنتحب خلف قافلة أحلامها المسروقة، وتخيم العتمة على طرقاتها كأنها بلا نوافذ تستقبل الشمس، ويبلل المطر رأسي بشدة كأنها بلا أسقف عازلة، فكنت أبحث في ممراتها عن الدفء الحقيقي فلا أجده، وأرتعش تحت أغطيتي الثقيلة كأنني طفلة سقطت في بركة ماء نصفها ثلج، فلا أدفأ تحت الأغطية أبداً.
وكأننا حين انفصلنا أعلنت الحياة شتاءً دائماً، فبعدك انتظرت الربيع بزهوره طويلاً ولم يأتِ، وانتظرت الصيف بحكاياته ولم يأتِ، وانتظرت الخريف بدفئه ولم يصل!
وكأنك حملت الصيف والربيع والخريف في حقيبتك وأنت تغادر، وأبقيت لي الشتاء فلم تدفأ روحي بعدك أبداً، أو كأنك حين قلت وداعاً كنت قد أصدرت عليَّ حكماً بالبرد المزمن وأعلنت شتائي..
فعشت بعدك سنوات أظن أن الأشياء في الخارج باردة جداً فأتجنب لمسها، حتى اكتشفت بعد معاناة طويلة مع البرد أن الأشياء التي كانت تحيط بي لم تكن باردة، ولا الأغطية التي تدثرتُ بها كانت باردة، ولا الحكايات التي بحثت ُفي ممراتها عن الدفء كانت باردة، ولا تلك الأحلام التي كنت أرتجف عند الاقتراب منها كانت باردة كما ظننت!
وأن الشتاء كان في قلبي أنا فقط، وأن البرد كان حالة افتقاد تلبست روحي أنا فقط، فحين نكون في حالة حنين نشعر بالبرد كثيراً، وكأن الفقد يسرق من دواخلنا الكثير من الدفء، وعندها يبدأ الشتاء في داخلنا، وتنهمر الأمطار بقوة، ويملأ صفير الرياح آذاننا، وترعبنا أصوات رعود العمر كثيراً..
قبل النهاية بقليل:
حين نتعرض لهزات فراق وحنين تتبعثر الفصول في قلوبنا كثيراً.. ولا تبقى أربعة!
***