أحياناً يكون العوز والفقر، هما المحفز الأساسي للوصول إلى النجاح، ولكن الأكيد أن الإنسانية التي نجدها في طريقنا من الآخرين هي ما تعطينا القدرة على تخطي الصعاب والاحتفاظ بما حققناه من نجاح، لذا قُدمت الرحمة دائماً على المحبة.
بائع السلع
لم تكن أحلام الصبي الفقير هوارد المولود في كامدن نيوجيرسي بالولايات المتحدة الأمريكية، تتسع لأكبر من أن يبيع كل ما في صندوق الحلوى الذي يحمله يومياً للمرور على المنازل؛ ليكسب قوت يومه، ويستطيع أن يدفع مصاريف مدرسته، كان هوارد رغم صغر سنه هو المُتكفل بمصاريفه ومأكله وملابسه.
في ذاك اليوم كان يحمل عبء فقره وجوعه، وهو يحمل صندوق الحلوى ويطرق الأبواب ليبيعها لصغار هم في مثل سنه تقريباً، كانت آلام معدته لا تُحتمل، والجوع ينهشها دون رحمة أو شفقة، قرر هوارد ولأول مرة أن يطلب طعاماً من أحد البيوت ليسد جوعه، خاصة وأنه لم يكن يملك في جيبه ما يُكمل عشرة سنتات.
طرق هوارد باباً وخرجت منه فتاة صغيرة جميلة، وبدلاً من أن يطلب طعاماً اكتفى بأن يطلُب ماءً من شدة خجله.
لكن قلوب الأطفال تشعُر بما لا نشعر به نحن الكبار، فشعرت الفتاة بجوع الصبي، فأحضرت له كأساً من اللبن، شربه ببطء وسألها «بكم أدين لك؟» فأجابته «لست مديناً لي بشيء، لقد علمتنا أمنا أن لا نقبل ثمناً لفعل الخير»، شكرها ومضى في طريقه وهو يشعر أن إيمانه بالله وبالرحمة والإنسانية قد زاد، وأن ثمة يأساً وإحباطاً يرحل منه إلى غير رجعة.
الدين مدفوع بكوب حليب
مرت السنوات وكبرت الفتاة ولم تعد تذكر من تلك المواقف العابرة شيئاً، بدأت صحتها رغم شبابها تتدهور وبعد الفحوصات أخبرها الأطباء أنها مصابة بمرض خطير، ولم يستطع أحدهم معالجتها، فأرسلوها لمستشفى المدينة، وهناك تم استدعاء أحد الأطباء المتخصصين لفحص مرضها النادر.
جاء الطبيب مُسرعاً لفحص الفتاة حين سمع اسم المقاطعة التي جاءت منها، شاهدها وهي طريحة الفراش ولمعت عيناه بشكل غريب.
أبدى اهتماماً كبيراً بحالتها، عاقداً العزم على عمل كل ما بوسعه لإنقاذ حياتها، وبعد صراع طويل، تمت المهمة على أكمل وجه، وطلب الدكتور الفاتورة إلى مكتبه كي يعتمدها، فنظر إليها وكتب شيئاً في طرفها وأرسلها لغرفة المريضة، التي كانت خائفة من أن تكون الفاتورة أعلى من قدرتها على الدفع، لكنها عندما فتحتها سقطت من عينيها الدموع وهي تقرأ عبارة كُتبت في طرف الفاتورة تقول «الفاتورة مدفوعة بالكامل بكأس من اللبن» التوقيع دكتور «هوارد كيلي».
هوارد كيلي أسطورة الطب
كانت هذه هي قصة كفاح دكتور هوارد توود كيلي، الذي ولد في فبراير 1858، وكانت حياته سلسلة من الفقر والعوز، ولكن أراد القدر أن يطرق هذا الباب الذي غير مسار حياته، ليجتهد ويتلقى تعليمه في جامعة ولاية بنسلفانيا، وكان عضواً لعدة سنوات في كلية الطب في جامعة «ماكجيل»، وحين وصل لسن31 أصبح أول أستاذ أمراض نساء وتوليد في جامعة «جونز هوبكنز»، وتدرج ليُصبح بعد ذلك واحداً من أكبر أربعة أساتذة مؤسسين في مستشفى جونز هوبكنز في بالتيمور «ماريلاند»، وكان لكيلي الفضل في تأسيس تخصص «أمراض النساء» وتطوير مناهجه الجراحية وتقديم كل ما هو جديد في ذاك الوقت في البحوث المرضية الخاصة بهذا المجال، وقد قدم كيلي في 30 عاماً، هي مدة وجوده في هوبكنز، مناهج جراحية جديدة لأمراض النساء، واخترع العديد من الأجهزة الطبية، بما في ذلك منظار المثانة، وكان أول من استخدم الراديوم لعلاج السرطان في ذلك الوقت.
إنجازات تاريخية
لم تتوقف إنجازات كيلي عند هذا الحد، بائع الحلوى الصغير ظل يتدرج المناصب باجتهاد غير مسبوق، فحصل على درجة الدكتوراه الفخرية (دكتوراه في القانون) من أبردين واشنطن، وشغل منصب رئيس جمعية الجنوب الجراحية، وأمراض النساء في عام 1907، كذلك جمعية أمراض النساء الأمريكية في عام 1912، وكان زميلاً وعضواً فخرياً في مجتمعات التوليد وأمراض النساء في إنجلترا واسكتلندا وفرنسا وألمانيا والنمسا وإيطاليا.
توفي كيلي في 12 يناير 1943 بعدما ترك لأبنائه التسع شهادات ومقالات علمية وإنجازات طبية يفخرون بها، رحل الصبي الصغير عالماً كبيراً يذكره التاريخ.
همسات
«تُرى كم منا لديه القُدرة على تحويل عثراته إلى إنجازات يفخر بها، وكم منا حول ألمه لقوة لا يُستهان بها، إن الحياة لا تحترم المُنهزمين، ولا تحترم أيضاً قساة القلب، كيلي كافح كثيراً ليصل إلى ما وصل إليه، لكنه أيضاً وجد من يمُد له اليد بكوبِ من الحليب، ومن شعر بجوعه دون أن يتكلم، إن الإنسانية هي التي تخلق إنساناً حقيقياً».