السفر عبر المتوسط ـ2ـ


أتيح لي أن أرى البحر الأبيض وزرقته من أماكن مختلفة تطلّ عليه، من الشاطئ الغربي عند بور سعيد، مرسى مطروح، العريش، من تونس، الحمامات، سوسة، قابس، من الجزائر، من طنجة، من مونبلييه الفرنسية، قرية صغيرة قريبة اسمها جابس، الشاطئ الفرنسي بمدنه الصغيرة الجميلة، تلك المياه التي تلامس الشاطئ هنا، في إسبانيا، في جنوة الإيطالية، في الجزر اليونانية، في أدنة بتركيا، اللاذقية في سوريا، طرسوس، بيروت، طرابلس، هذه المياه تلامس شواطئ البحر الأبيض، أراها في مرسيليا فأوقن أنها قادمة من الإسكندرية، أو ماضية إليها، لا يمكن أن نحدد اتجاه المياه بالنظر، هل تسافر ذاهبة؟ أم قادمة؟ هل تقلع أم تجيء؟

الغريب أنني عندما وصلت إلى شاطئ الأدرياتيكي لم أشعر بأنني أمام البحر الأبيض، رغم أنه امتداد طبيعي إذا نظرنا إلى الخريطة، كذلك في مضيق الدردنيل، وفي فارنا البلغارية، أو سوتشي الروسية المطلة على البحر الأسود، ليس قوة الاسم فقط، إنما ثمة شيء خاص بالبحر الأبيض، ثمة حالة تحتاج إلى تأمل، إلى دراسة، حالة تختص بالبحر الأبيض، تنعكس في المياه، في ملامح البشر، في المزاج العام للشعوب المطلة عليه، أتصور أن أساسها ثقافي، لقد تكوَّنت حضارات عريقة قديمة على شواطئ البحر الأبيض، ركن هذه الحضارات الركين الحضارة المصرية القديمة، على نهر النيل جرى التأمل، واكتشاف وجود قوة خفية تحرك هذا الكون البادي، وعبر البحر المتوسط جرى الاتصال بحضارات وشعوب أخرى، كان خشب الأرز في لبنان ضروريًّا لبناء القوارب المقدسة التي تعبر فيها الشمس الليل الغامض المستتر، وفي بداية الخمسينيات اكتشف الأثريون مركبات الشمس بجوار هرم خوفو الأكبر، وأُعيد تركيبها، القارب رمز أساسي في الفكر المصري القديم، بالقوارب تم عبور البحر الأبيض، ولم تأتِ هذه القوارب بأخشاب الأرز، والحرير الفينيقي، بل جاء منْ ركبوها بالأفكار والتأملات المغايرة، وعبر هذا البحر جاء الإسكندر الأكبر، واليونانيون مكثوا في المعابد المصرية، وفي المكتبة الشهيرة المطلة على البحر الأبيض، ومنها تعلموا الحكمة المصرية القديمة، وعلوم الأقدمين، ترجموا الكتب والمؤلفات المصرية القديمة إلى اليونانية، هكذا اتصلت الأسباب، وامتدت الأفكار من وادي النيل إلى أثينا، إلى أوربا.

كان الإبحار عبر المتوسط معروفًا في الزمن المصري القديم، ونتيجة لهذه الأسفار كتبت قصة من أبدع ما وصلنا، تحكي الظروف التي نُفِي فيها سنوحي أحد رجال الفرعون إلى إحدى جزر البحر المتوسط، ربما تكون قبرص أو كريت، وعندما شعر سنوحي بدنو الأجل راح يكتب الرسائل المؤثرة إلى الفرعون يرجوه الصفح، فأكثر ما كان يحذره المصري أن يموت ويدفن في أرض غريبة، غير أرض كيميت، وكيميت اسم مصر في الزمن المصري القديم.

جزيرة كريت أول أرض أراها من نافذة الطائرة عندما أتجه غربًا، أعبر البحر الأبيض، بعد ساعة واحدة من مفارقة الشاطئ السكندري ألمح قمم المرتفعات الصخرية للجزيرة التي عرفها المصريون منذ قديم الزمن، عندما يكون الطقس جميلاً، والهواء صافيًا، أتطلع إلى مياه البحر، أرى تجعداتها، أتساءل عن اليوم الذي يمكن للإنسان أن يفك ذاكرتها ويقرأ رموزها، فللمياه ذاكرة تماما مثل البر، ولعل ذاكرة البحر الأبيض من أقدم وأعمق ما عرفه الكوكب من ذكريات، فالحركة بين شطآنه قديمة، أساطيل تجارية، وحربية، طريق الحرير الذي كان يبدأ من الصين كان ينتهي في البندقية، عندما رأيت منافذ قصر الدوق في فينيسيا لمحت في تصميمها آثار الفن العربي، كأني أرى سجادًا معلقًا من فسيفساء وحجارة وخزف، في صقلية رأيت قبابًا إسلامية المظهر من الخارج، في الداخل كنائس، النقوش على الجدران مزيج من الأرابيسك العربي، والوحدات اليونانية والبيزنطية، صقلية كانت منطقة مثالية للتفاعل، للتعايش، تمامًا كما كانت الأندلس، تجاوزت الأديان وتفاعلت الأفكار، ومن الركن الشرقي للبحر الذي ننتمي إليه انبعثت الأسس الروحية التي تصوغ العالم المعاصر، من هذه الأفكار، والتأملات، ومن سائر إبداعات البشر حول ضفافه، يكتسب هذا البحر خصوصيته، والتي تجعلني أميِّز بين أمواجه وزرقته، وسائر بحار الكون.