بعض المصطلحات تُطرح وكأنها توحي بالشتم، أو الانتقاص، أو الدونية، ولكن لو فكّرنا فيها ملياً سنجد أن هذه المصطلحات أو المسميات لا يمكن الحصول عليها أو إتقانها إلا بصعوبة، وتتطلّب موهبة يمنُّ الله بها (عزّ وجلّ) على بعض عباده.. وهنا دعوني أستشهد ببعض الأمثلة:
أولاً: يصف بعض الناس الموهوبين من أهل الكلام بأنه "حكواتي"، يقولون هذا في محاولة التقليل من شأنه أو الانتقاص منه، ولكنك لو فكّرت بالحكواتي لوجدتَ أنه رجل يمتلك الكثير من المواهب، منها الذاكرة الجيدة، والقدرة على السرد، وإجادة صياغة المفرد، وموهبة جذب الناس، وهذه لا تتوافر لكثير من الناس، ويكفي أن نبينا موسى (عليه السلام) طلب من الله (عزّ وجلّ) أن يدعمه بأخيه هارون لأنه أفصح لساناً وأقدر على الكلام، ومن يقرأ كلام الجاحظ عن موهبة القدرة على الكلام يدرك ما أقول.
ثانياً: يطلق بعض الناس لقب "المهرِّج"، ويريدون بذلك الانتقاص والاستخفاف أحياناً، وما علموا أن المهرِّج يمتلك مواهب قد لا يمتلك منتقدوه ربعها، فالمهرِّج كما توحي اللفظة مشتقٌّ من الهرج، وهو القدرة الفائقة على تصفيف الكلام وتدفُّق العبارات، وجعل الباطل يظهر في صورة الحق، وإلباس الحقِّ ثوب الباطل، وهذه مواهب لا يمتلكها إلا العدد القليل من البشر.
ثالثاً: إذا شعر بعض الناس بأن فلاناً يمتلك جوانب كثيرة من المعرفة حاولوا التقليل من شأنه، وقالوا: "فلان بتاع كلُّه"، وما علموا أن من يحاول أن يكون بتاع كلُّه سيحتاج إلى مواهب متعددة، واطّلاعات متنوعة، وكلُّ ذلك على حساب الجسد، لأن من يريد أن يكون "بتاع كلّه" عليه أن يبذل الجهد الجهيد، وتلمُّس الفعل السديد، لكي يحصل على لقب "بتاع كلّه"، وهذه لا يستطيع أن يقوم بها إلا أصحاب النفوس الكبيرة، وقد قال المتنبي:
وإذا كانت النُّفوسُ كِباراً
تعبتْ في مُرادها الأجسامُ
في النهاية أقول: أتى على الناس زمان ينتقصون فيه من المطرب واللاعب والممثِّل والمهرِّج والحكواتي و"بتاع كلُّه"، لأنهم يغارون من هذه النماذج التي تمتاز بالمواهب المتعددة، فأنت في مجتمع كالسعودية يفوق تعداده 20 مليوناً لن تجد إلا نماذج فريدة مثل ماجد عبد الله، ويوسف الثنيان، ومحمد نور، وخالد مسعد، و سالم الدوسري، أو مواهب غنائية مثل طلال مداح (رحمه الله) ومحمد عبده، وعبد المجيد عبدالله، ورابح صقر، أو نماذج كوميدية مثل ناصر القصبي، وعبد الله السدحان، وحبيب الحبيب، وخالد الفراج، وفيصل العيسى.