الرحيل في قانون الحزن عدلٌ واضح.. وأتساءل.. هل الماضي حقاً هو مصدر تِلكَ الأحزان والهموم؟ هل ذكرياتنا هي ما تجلب معها كل شعورٍ باليأس والانهزام؟!
لَكَمْ كُنتُ أتمنى أن يكون بمقدوري أن أزيل ما حشوته من هذه الذكريات من رأسي.. واستبدال الأمل والأحلام بها.. ولربما استبدال الفراغ بها.. فعدم وجود الذكريات في حد ذاتهِ غنيمة، لا تُقدر بثمن..
نعم.. الذكريات هي السبب.. هي مصدر تعاسة الإنسان وحُزنهِ الدائم..
والذكريات هي الماضي.. فمن تخلّص من تذكُّر ماضيهِ سَعِد وهنأ.. لكنني لا أعيشُ وحدي، فهُنالك الناسُ من حولي.. الأحباء، الأصدقاء، والعائلة.. جميعهم مشاركون في تلك الجريمة..
جميعهم يضعون أيديهم في مسرحِ حياتي لرسم جُزءٍ من لوحةٍ بشعة اسمُها الحُزن..
نعم.. جميعهم مُتّهمون بالمشاركة في حُزني.. وأقع في حيرة..
دائرة مُغلقة ليس لها مخرج.. هل عليَّ أن أقاطعَ الناسَ كي أسعد؟ هل أنعزلُ عن العالم كيلا تُطيلَ الأحزانُ ضرباتِها فوق رأسي؟ هل يُمكن للإنسان أن يسعدَ إذا عاش بمُفردهِ؟
الحقيقة القاسية.. هي أن الحُزن يُلازمنا، يُلازم خُطانا أينما ذهبنا، بُمفردنا كنا أو مع الآخرين..
في هذا العالَم أو في عالمٍ آخر بعيد، أرى الحُزن كشبحٍ يُلازمُ ظلّي، يتعقّب خُطاي.. وما إن ينفرد بي، حتى يسْتَلَّ سيفَه.. ويُطيح بُعنق كُلّ الأفراح في صدري..
ينزعُ مِني أوراق اللحظاتِ الخالدةِ الحُلوة.. ولا يترك لي إلاّ الجراح العارية في نزْفٍ مستمر..
ثُمّ يأمرُ الدموعَ فتنهمر، مُعلنةً عن نجاح مُهمته.. حينها فقط يرحل، بعدما أوقعني ضحيةً لأسياجهِ.. حين أضعُف وأستسلم لجيوش الحُزن لأن تحتل ما بين ضلوعي.. حينها يرحل، ويذَرُني كومة قشٍّ بالية.. هالكاً في ظلام الوحدة والندم.. تتشابك المشاعر كخيوط الغزل وتتلاحم ضفائرها بين الأمس والغَد.. فنُصبِحُ تائهين في الملكوت، في طريقٍ لا نهاية لهُ..
والعتمة تُخفي الطريق عن أعيُننا.. فنسيرُ في استسلامٍ، لا نُدرك كيف نصل.. نسيرُ قُدُماً على غير هدى.. كأننا موتى أحياء.. فقد هيْمن الحُزنُ علينا وأحكم قبضته على قلوبنا، فلم نَعُد مِلكاً لنا، بل لهُ..
وحتى إذا حاولنا الفرار فسيلاحقنا مرةً أخرى، حتى ينال مِن مشاعرنا البِكر، ويُطفِئَ كُل نورٍ في القلب أضاء لنا الطريق يوماً...
أحياناً أشعُر بالحزن، من دون أسبابٍ واضحة.. من دون مُبررٍ منطقي يُقنع العقلاء..
حزينٌ من نفسي، من شكل حياتي.. حزينٌ على لا شيء.. سوى أنني أعيشُ في تلك الحياة..
ربما حزينٌ على العالم، ومنِهُ.. وحينما أقول إنني حزين، أعني أني مُنكسر.. أعني أن القلب لم يَعُد يحتمل.. وأن الحياة مذاقها مُرّ.. ولونها قاتِم..
أحياناً.. أشعر بأن كُل شيء يسيرُ عكس الاتجاه.. ما أتوقعهُ لا يحدُث، وما أخاف مِنهُ يأتيني سريعاً..
كُلّ شيء في الحياة يتحدى وجودي، ويقف حائلاً أمام فرحتي.. وأتساءل.. كيف للحياة أن تمنعني من الشعور بها؟ كيف للحياة أن تدفعني نحو الموت، نحو النهاية البائسة؟
أتساءل لِماذا لا نرى في الدُنيا سوى التُعساء؟ ولا نسمع سوى أنين الغارقين، وكلمات الحُزن والأسى؟!
هل انتهى زمن السعادة، أم نفدت خزائنها من ملوك الأرض؟
هل تاهت السعادة عن أراضينا، أم نحنُ من ضل الطريق؟!
الحقيقة أن هُناك ما يستحق أن نعيشَ لأجلهِ..