قرر أن يأتي بوالدته لتعيش معه، بعد عراك عمن سيعتني بها بعد إخوته الذين قبضت عليهم الحياة، جاء قراره بعد ليال طويلة من بكاء الحال الذي وصلوا إليه، أتى بأمه التي لا تُحرك ساكناً، واحتفظ بها كقطعة فنية ورثها عن عائلته، وعليه أن يعتني بها بسبب ظرفها الخاص الذي لا يُعطل شيئاً فيها، إنها فقط لا تنفث الكلام في الهواء ولا تلتقط صداه، أراحها الله من أن تعطي سلوكها نطاقاً محدوداً بالكلام على حد تعبيره.
في الصباح حين هم بالخروج وجد ورقة ملاحظة فوق لوحته مدون فيها "شقتك فارغة، وباردة"، تعجب من هذا التعليق، ثم التقط قلماً وكتب "هذه مهمتك"، وخرج يقصد الطرقات كمهمة صباح تأملية.
حين عاد لم يجد أمه في البيت، أصابه القلق وهواجس أنها لن تسمع أبواق السيارات وتصدمها، أو أنها ستعلق في مصعد البناية ولن تعرف كيف تناجي أحداً، توقف عن التفكير، كاد أن يبكي من فرط عجزه وتفكيره أين قد تكون ذهبت وهي لا تعرف الحي، وليست معتادة على الخروج!
فكر أن يتصل بإخوته، ولكنه خشي من تسلطهم المتباهي، وحين مرت ثلاثون دقيقة، اتصل بأخيه الكبير وأخبره عما حصل ولم يسمع سوى التوبيخ، بدلاً من القلق والتفكير معه في أين قد تكون ذهبت وأغلق الخط عند جملة:
- لو أنها لوحة لاعتنيت بها أيها المعتوه..
جلس يبكي كطفل تائه، ورفع رأسه حين سمع صوت الباب، أمه أمامه وتحمل أكياساً كثيرة، انتفض ووقف يمسح دموعه، ويسألها أين كنت؟ ينسى دوماً أنها لا تسمع، بل يُصر على تكرار السؤال، وهي تواجهه دوماً بالحقيقة مشيرة لأذنيها وفمها بإشارة X.
جلست تُشير له أن منزله فارغ ولا طعام فيه، وفهم أنها ذهبت لشراء احتياجات البيت، وتعجب من مقدرتها على الأمر.
قبل يدها وقال: "سنشرب القهوة سوياً"، جلسا أمام النافذة الكبيرة التي يحبها كزاوية مفضلة، يخبر أمه أن النافذة لوحته التي يُحب أن يُطيل التأمل فيها، غيمة تأتي، وأخرى ترحل، تتوعد لها الشمس، أقمشة ملونة على حبل غسيل مهترئ يُذكره بالغربة، بيوت لم يدخلها، نسمات مرحة، نوافذ تستر العيوب وأخرى تفضح، ستائر غاضبة، ورجال يدخنون حتى تقتلهم نارها..
تظهر سيدة بشعر غجري طويل، وملامح جادة، تقف على النافذة تنتظر شيئاً ما، أخبر أمه أن لوحته تغيرت اليوم، باتت مشرقة ووجد ما ينقصها حقاً، فكم بيت فارغ ناقص بسبب عقوق صاحبه، وعدم تقبل لوحة الجنة "أمه"؟
قبل يديها مبتسماً راضياً مردداً لقلبه: اليوم فزت بورقة اليانصيب، واشتريت بها أغلى لوحة في الكون، حينما استقبلت أمي في بيتي، ولن أبيعها أبداً.