من فتاة فقيرة معدمة ومهملة، تنام في الملاجىء، وتتسكّع في الشوارع إلى «نجمة» تغنّي في أكبر المسارح وأشهر المهرجانات، هكذا كانت حياة لمياء التونسية أشبه بالقصص والأفلام.
بؤس وحرمان
عرفت الخصاصة والحرمان، والبؤس سنوات طويلة، ولكنها لم تستسلم لليأس، وتمسكت بخيط الأمل للخروج من النفق المظلم، الذي كانت بداخله إلى أن ابتسمت لها الحياة بعد طول عناء وانتظار، وهي اليوم في الثالثة والأربعين من عمرها، مطربة شهيرة وامرأة سعيدة وإنسانة ناجحة ومتألقة تقيم في فرنسا.
أغانيها تشبهها
تشدو لمياء باللغة الفرنسية في إحدى أغانيها قائلة: «أيتها الصغيرة، أختاه، أشعر بأحزانك، وأحس آلامك، وأعلم مرارة الصمت، ووحشة الصقيع الذي يلف حياتك.
لقد مررت بمثل حالتك
ولكن لا عليك، فليس كل شيء كئيباً وحزيناً
كفكفي دموعك عن خديك
فالحياة هكذا تقسو علينا أحياناً، ولكن
علينا أن ننهض من كبوتنا ونغدو أكثر قوة
لنحقق أحلامنا، ونتحدى الصعاب ونتجاوز العراقيل»
أسرة ممزقة
تقول لمياء وهي تروي صفحات من حياتها بصراحة: «بين يوم ولادتي في أول سبتمبر (أيلول)1971 واليوم، طريق طويل مفروش بالأشواك، فقد ولدت في باريس، من أب وأم مهاجرين من تونس، وبالتحديد من مدينة «قفصة» بالجنوب التونسي، وفتحت عينيّ في محيط عائلي غير متماسك؛ فوالدي الذي كان عاملاً بأحد المصانع، كان في خلاف شبه دائم مع أمي؛ بسبب قلة ذات اليد وكثرة الأبناء، وضيق البيت الذي نسكنه، وكنّا 8 إخوة نعاني الفقر، والخصاصة، ونشكو من الخصام بين والدينا، ومما زاد الطين بلة طبع أمي المتسم بالعناد، والمراس الصعب، فكثرت المشاكل، وتفاقمت خاصة بعد أن تسللت الخمر إلى البيت.
الملاجىء
ويوم زارتنا المرشدة الاجتماعية في المنزل، ووقفت على حقيقة حالتنا المادية، والنفسية، ووضعنا المتردي، رأت أنه لا سبيل إلى إنقاذنا، نحن الأبناء، وانتشالنا من الضياع، والانحراف، إلا بإيداعنا في الملاجئ الخاصة بالمعوزين، واليتامى، والمشردين.
كنت في السادسة من عمري، يوم أخذوني إلى الملجأ، ولم أغادره إلا عندما بلغت سن الرشد (18 عاماً)، كما تم إيداع كل إخوتي في ملاجئ أخرى مماثلة.
طلاق
وفي هذه الأثناء حصل الطلاق بين والديّ، ولم أقابل أبي طيلة 12عاما بأكملها، إلا مرات معدودات؛ فقد تزوج مرة أخرى، وأنجب خمسة أطفال من امرأته الثانية، أما أمي فقد اختفت تماماً، ولم ألتق بها منذ مغادرتي المنزل إلى الملجأ، إلا بعد أكثر من خمسة عشرعاماً، فعشت كاليتيمة، لا أهل لي، ولا أقارب، ولم أنعم أبداً بحنان الأم، أو عطف الأب. لا أحد يسأل عني، ولا أحد يمسح دمعتي، عندما يشتد بي الحزن وأبكي.
حبل النجاة
لم تجد لمياء من متنفس لآلامها، وأحزانها، إلا الغناء، ولم يكن لها من سبيل للتفريج عن كربها، إلا الموسيقى، ورغم أن صوتها لم تكن تظنه جميلاً، ولكنها كانت تبحث عن باب نجاة، خاصة وأنها فشلت في متابعة دراستها، وقد ساعدها الحظ بأن مكنتها المشرفة على الملجأ، الذي كانت تقيم به، من أخذ دروس في الموسيقى والغناء؛ لما لاحظته لديها من تعلق كبير بالفن.
طريق الأشواك.. وداعاً للملجأ
« حين بلغت الثامنة عشرة من عمري، وأصبحت وفق القوانين الفرنسية راشدة، ومسؤولة عن نفسي، وغادرت الملجأ لأشق طريقي في الحياة، وكان طريقي كله أشواكاً. طرقت العديد من الأبواب؛ للدخول إلى عالم الغناء، ولكنها كانت كلها موصدة أمامي. فليس الأمر يسيراً لفتاة من أصل عربي فقيرة، ولا أحد يقف وراءها لتجد موطئ قدم في عالم «الشوبيزناس» ولكني تسلحت بالإصرار ولم أستسلم، وعملت نادلة ثم بائعة، وكنت أسكن في بيت به غرفة واحدة لا سرير فيها، أنام على الأرض، وثلاجتي خاوية أو تكاد، وأعيش في أغلب الأحيان على« سندويتشات» بالسردين، وكنت عندما أرى الفتيات في مثل سني يرفلن في الملابس الأنيقة، والجميلة أشعر بالغبن وأحسدهن على حياتهن».
في مخافر الشرطة
أخذت لمياء تغني في الشوارع، وفي محطات القطارات، و«المترو» وأوقفتها الشرطة أكثر من مرة، ولكنها كانت لا ترى لنفسها مخرجاً من واقعها المتردي، إلا بالمضي في الطريق الذي اختارته لنفسها، رغم كل الجراح التي أدمت قدميها.
إصرار، وعن ذلك تقول: «أن أصبح مغنية هو الحلم الذي كان يشدني للحياة، بل إنه حلمي الوحيد، ولذلك تمسكت به، ورغم أني لم أولد مغنية، ولا شيء كان يدل على أني سأصبح مطربة، وأعترف أني لست موهوبة في هذا المجال، ولكن ما كان يدفعني دائماً إلى الأمام هو الحلم، وخطوة بعد أخرى، ويوماً بعد آخر، ومحاولة إثر أخرى، نجحت في إقناع بعض دور الغناء بمنحي فرصة».
التحول
عرفت لمياء الفشل والتجاهل واللامبالاة، فلم يقتنع بها من بيدهم «صنع المغنين»، ولم يلتفت لها في البداية أي منتج أو شركة، وحتى عندما غنت، لم يكتب عنها أحد سطراً واحداً، ولم يعرها النقاد أي اهتمام. تعثرت كثيراً، ولكنها لم تسقط، وأصدرت ألبومها الأول؛ ليأتي بعده الثاني والثالث والرابع، وأطل النجاح أخيراً، وعن ذلك تقول: «لم أصدق عينيّ وأنا أشاهد نفسي أول مرة في إحدى قنوات التلفزيون الفرنسي، كنت أفرك عينيّ ثم تنهمر دموعي تأثراً وفرحاً، لقد أخذت ثأري من الحياة التي قست علي، وجنيت بعزيمتي وإصراري ثمار طموحي، ولم أصدق أني أصبحت معروفة، ومشهورة إلا يوم لاحظت أن الناس يلتفتون لي، عندما أخرج إلى الشارع، كان ذلك تحولاً بحياتي».
طعم النجاح
أصبحت لمياء اليوم نجمة؛ تغني بأشهر المسارح الفرنسية والعالمية، وهي تطوف العالم كله، من أوروبا إلى أفريقيا، إلى كل بقاع الدنيا، تغني وتحصد النجاح، وتشارك في أشهر المنوعات التلفزيونية، ولها ملايين المعجبين والمعجبات في فرنسا، وكل الدول الفرانكفونية، ويقبل الجمهور بالملايين على شراء ألبوماتها، وأصبحت لدى «الجيل الثاني والثالث من المهاجرين، من دول المغرب العربي، رمزاً للنجاح والتغلب على الصعاب، ورغم أنها اختارت لنفسها اسماً فنياً هو «لام» ولكنها تعترف بأنها ستبقى دائماً «لمياء»، ورغم أنها لا تحسن الحديث بالعربية، إلا أنها عندما تذكر تونس تقول عنها بلدي»، ولا تخفي سعادتها باستقبال الجمهور التونسي لها -كلما غنت له- بكل حب وإعجاب.
علاقتها مع الأسرة
تصف لمياء كيف ارتكبت حماقات كثيرة بسبب معاناتها، والظروف القاسية التي مرت بها، وقاطعها والدها عشرة أعوام، واليوم هدأت العاصفة، وتتابع: «أزوره بالأعياد وأسأل عن أحواله من حين لآخر، وعلاقتي بإخوتي بقيت دائماً متينة ومتواصلة، ولا أريد أن أنقطع عن جذوري، نعم، اليوم أضحك كثيراً وأبكي قليلاً، ولكن جراحي لم تندمل كلها، رغم أني أعيش قصة حب مع رجل يحبني كثيراً».