ألم الالتهاب في طرف لسانها لا زال حارقًا، تشعر به مع كل نفس تأخذه، غصة حلقها تزيد الأمر سوءًا، ما كان عليها أن تسمع حديثهما، ما كان يفترض ذلك، أو ربما.. على العكس، من يدري بما يدور في دماغ زوج أختها الفظ..؟
كانت تتناول قهوتها الصباحية في المطبخ وتجهز فطورهما في نفس الوقت، عندما تناهى إلى سمعها صوته وهو يوبخ زوجته بنبرة حانقة: ".. وماذا بعد؟ هل علينا أن نضحي دائمًا بإجازاتنا الأسبوعية من أجل استقبال الهانم؟ أليس لديها ما تفعله غير النط علينا من أسبوع لآخر؟ عشاء أمس كان مهمًا بالنسبة لي.. كانت فرصتي لأتعرف أكثر على المدير بعيدًا عن رسميات العمل.. أنت تعرفين ما يعني ذلك.. ونزهة هذا الصباح.. من زمان لم نقم بجولة في البحر.. أنا وأنت.. نحتاج لبعض الخصوصية، أختك دكتورة ما شاء الله.. أليس كذلك..؟ يفترض أن يكون لديها معارف ومواعيد وانشغالات.. تحدثي معها.."،
صوت أختها الضعيف: "ماذا تريد أن أقول لها؟ أنت تعرفها.. لا تحب الغرباء.. لا ترتاح إلا عندنا..".
"ليست مشكلتنا، أن نستقبلها من حين لآخر.. أوكيه.. ولكن أن تهجم علينا آخر كل أسبوع.. وكأنه لا شغل لدينا غيرها.. لا وألف لا، لم تعد صغيرة.. وهي طبيبة.. أليس كذلك..؟ فلتعالج نفسيتها أو لتبحث عمن يساعدها على ذلك، لم أسمع من قبل بدكتور لا يحب الغرباء.. إنها مهزلة.. أختك كرة أعصاب تتخفى خلف قناع الخجل والوداعة، إنها بحاجة لجلسات نفسية.. كرة أعصاب.. أقول لك..".
كرة أعصاب...
بلعت الإهانة برشفة قهوة ساخنة حرقت لسانها، وأنهت تحضير الفطور ثم جمعت أغراضها واستأذنت في الرحيل لأمر طارئ لا يحتمل التأجيل.
اتكأت على زجاج نافذة القطار الذي يأخذها إلى الدار البيضاء وجسدها يرتجف.
هكذا إذن، زوج أختها يراها كرة أعصاب تفسد عليهما حياتهما؛ فليكن، لن تعتب باب دارهما بعد الآن، ولن تسأل عنهما، ولا يهم إن لم يبق لكلتيهما من رائحة العائلة شيء.
لم يعد لرابطة الدم والعشرة معنى على ما يبدو..
خنقتها العبرات، وتحركت في مقعدها لتفاجأ بالشخص الجالس قربها يتأوه ويدس يده في جيب بدلة العمل الرمادية التي يرتديها ويجذب منديلاً مكرمشًا مسح به عينيه وتنهد عميقًا، وقد أحنى رأسه باستسلام.
رجل نحيل الجسم، شاحب الملامح، في الخمسينات، على ركبتيه ملف طبي مثقل بالأوراق.
تعب من التنقل بين الرباط والدار البيضاء، في كل مرة يدفع فيها ملفه إلى المستشفى الذي تتعامل معه شركته، يخبره المسئول بأنه يحتاج إلى المزيد من الوثائق لقبول التكفل بعلاجه، أصيب بمرض مزمن في صدره منذ شهور، وقيل له إنه بحاجة للخضوع لعملية دقيقة، شركته تماطل في تغطية مصاريفه، رغم أن الفحوصات أثبتت أن مرضه ناجم عن تعرضه لتسمم في مختبر الشركة، لا يعرف ماذا يفعل، وهنه يزداد وقدرته على التحمل تضعف، وزوجته لا حول لها ولا قوة وأولاده صغار، وهو لا يدري ما سيحل بهم إن هلك قبل أن يخضع للعملية، وطريقة سير الأمور تنبئ بأن ذلك ما سيحدث لا محالة.
أمسك صدره الذي يشتعل نارًا، وحاول دون جدوى أن يحبس سعالاً حادًا أفقده القدرة على التنفس لثوان.. ودون أن تشعر.. مدت يديها إليه تساعده على البقاء في وضعية ملائمة.
الراكبان الجالسان قبالتهما وضعا كفيهما على أنفيهما وأشاحا بوجههما بعيدًا وكأنهما يحتميان من عاصفة غبار مفاجئة.
أحد الركاب في الخلف استنكر ممتعضًا: "هل تحول القطار إلى مستشفى؟ لم ندفع ثمن التذاكر ليتم شحننا بالأمراض.. ما هذا العالم..؟"
تعالت أصوات تسانده، وتزيد من ارتباك الرجل الذي استسلم بوهن لوصلة سعال أخرى..
مدت يدها إلى الملف الطبي الذي سقط على الأرضية، ودون أن تشعر، فتحته وأخذت تتفحص وثائقه.
نسيت حرقة لسانها، وانحنت تستوضح الرجل عن تفاصيل مرضه.
لن تتركه.
المسكين يبدو على حافة الانهيار؛ بدنيًا ونفسيًا.
من قال إنها لا تحب الغرباء..؟