في فينيسيا، تحديداً في جزيرة مورانو، المليئة بالمنازل من طراز عصر النهضة، حيث تطل منارتها البيضاء المميزة، يظل إنتاج الزجاج هو أعلى تعبير عن العمل المتقن للعديد من سلالات صانعي الزجاج الكبار الذين نقلوا فن تحويل الرمال بالنار والهواء في سرية تامة لجزيرتهم، حيث يستمتع الفينيسيون بهذا الفن العتيق الدقيق، فن صناعة الزجاج، منذ قرون عديدة وما تمخض عنه من إبداعات أذهلت العالم تُستخدم في مختلف المجالات لتتحول فينيسيا لعاصمة الزجاج الأوروبية بامتياز.. كيف ذلك؟ تابعي لتعرفي.
في مصر القديمة أول مصنع زجاج بالتاريخ
وفقاً لموقع yourmurano.com، يعود تقليد صناعة الزجاج إلى مصر القديمة (يُقدر العلماء أول ظهور للزجاج في الفترة بين 1000 إلى 1500 عام قبل الميلاد، حيث تم العثور على بقايا أقدم مصنع للزجاج في التاريخ في طيبة)، ثم وصل الزجاج عن طريق الإسكندرية إلى الرومان لتزيين منازل النبلاء ولكن كان لا بد من مرور قرون عديدة قبل أن يتطور الفن بحد ذاته بفضل التأثير العربي والآسيوي، وهو ما حدث في فينيسيا عندما تم اختيار جزيرة مورانو لتكون مصنعاً ضخماً للزجاج "عائم" لمنع نشوب حرائق على الأرض بسبب عملية صناعة الزجاج.
وصول الزجاج إلى فينيسيا
بدأ تصنيع الزجاج عديم اللون وآخر ملون في جزيرة مورانو منذ قرون طويلة، فإذا مشيت في شوارع البندقية اليوم، أو في القرن الخامس عشر، ستجد الأواني والأشكال الزجاجية في كل مكان. وقد ساعدت الذائقة الفنية المتأججة لدى الفينيسين والإبداع المتوطن داخلهم بإشعال روح المبادرة والابتكار ليبدعوا أشكالاً وألواناً من الزجاج. ورغم أن الزجاج يُباع اليوم على نطاق أوسع باعتباره تحفاً فنيةً يمكن جمعها، إلا أن الأطباق الزجاجية وألواح النوافذ والأوعية والأطباق والمجوهرات وبالطبع أكواب العصائر والمشروبات، بجميع الأشكال والأحجام والألوان، كانت جزءاً لا يتجزأ من حياة الفينيسين، وخاصة النبلاء، الذين كانوا يُحبون التباهي بثرواتهم، ومَن ثَمّ أصبحت الأواني الزجاجية هي الشيء المثالي الذي يمكن التباهي به والتفاخر بين العائلات الكبيرة.
عاصمة الزجاج الأوروبية
جعلت البيئة السياسية الخاضعة لسيطرة صارمة، فينيسيا عاصمة الزجاج الأوروبية بامتياز من عام 1450 إلى عام 1650، فقد كان التعاون بين الحرفيين أمراً شائعاً، ولم تكن هناك وصفات زجاج سرية في مورانو، فعندما كان أحد المتاجر يصنع تقنية أو لوناً جديداً، كان صناع آخرون يتبنونه. وكان الهدف هو السيطرة على السوق الخارجي، وليس المنافسة الداخلية.
كانت الأشكال والشفافية واللمعان من السمات المميزة للزجاج الفينيسي. وكانت المصانع تتألف حصرياً من صناع الزجاج، حيث لم تكن هناك حاجة إلى حرفيين آخرين، ومن ثمّ كانت إمبراطورية تجارية مغلقة لصناعة الزجاج، وقد أصبح زجاج مورانو الزجاج المميز للصادرات الفينيسية، بتقنياته المصنوعة بدقة والمبتكرة.
تم بيع الزجاج الفينيسي في جميع أنحاء أوروبا والشرق الإسلامي. حاول العديد من صناع الزجاج الأوروبيين تقليد الزجاج عديم اللون في البندقية، لكن القوانين الصارمة كانت تنظم تصدير المواد الخام وتمنع تبادل المعرفة الفنية بتقنيات صناعة الزجاج من تلك المدينة على أن بعض صناع الزجاج حصلوا على إذن بمغادرة فينيسيا أثناء فترة الكافاتا (منتصف أغسطس حتى يناير)، عندما يتم إغلاق أفران الزجاج، في حين انتقل آخرون إلى مدن إيطالية مختلفة أو بحثوا عن عمل في الخارج. عندما انتقل حرفيو الزجاج من البندقية إلى أجزاء أخرى من أوروبا، غالباً ما مزجوا بين الأنماط المحلية وأشكالهم وزخارفهم الأصلية.
قد ترغبين في التعرف على: أكسسوارات منزلية من البندقية مصنوعة من زجاج المورانو
الزجاج تجارة وفن وصناعة
كان للزجاج ثلاث قيم في فينيسيا، كتجارة وفن وصناعة. فقد كان مفيداً في الحياة اليومية وسلعة رائجة، وتُظهر الوثائق أن حبات الزجاج وكؤوس الماء والأطباق والأكواب الزجاجية وزجاج النوافذ والمرايا والمجوهرات وغيرها من الأدوات المنزلية التي كانت تُصدَّر بكميات كبيرة على طول طرق التجارة الفينيسية من ساحل دالماتيا إلى اليونان وسوريا.
عرف الفينيسيون الكثير من أنواع الزجاج وتوصلوا للعديد من التقنيات، فبحلول منتصف القرن الخامس عشر، حوالي عام 1450 اخترع صناع الزجاج الفينيسيون الكريستالو، وهو زجاج شفاف وخالٍ من البقع تقريباً، يشبه الكريستال الصخري، وأنتجوا أكواباً رقيقةً بأشكال بسيطة ولكنها أنيقة. تم تزيين بعضها بحلقات أفقية ملونة أو سيقان مصبوبة على شكل أسود.
قد ترغبين أكثر في التعرف إلى: ما هو فن الكريستال؟
اخترع صانعو الزجاج الفينيسيون كذلك زجاجاً أبيض يُسمى لاتيمو- مصدر الصورة pexel
خلال القرن السابع عشر، كانت الزجاجات المنفوخة ذات سيقان معقدة وملونة على شكل تنانين، حيث تحفل المتاحف بالعديد من الأمثلة للأواني على شكل جذع تنين معروضة، وقد أصبح مطلوباً لدرجة كبيرة في أوروبا وأماكن أخرى.
اخترع صانعو الزجاج الفينيسيون كذلك زجاجاً أبيض يُسمى لاتيمو، وفي أواخر القرن الخامس عشر، ابتكروا زجاج كالسيدونيو، وهو زجاج رخامي غني يشبه العقيق، واكتشفوا كذلك زجاج الأوبال، كما استخدموا أكاسيد المعادن في تركيبات الزجاج الخاصة بهم لتقليد العقيق والأحجار الصلبة الأخرى.
صُنع الزجاج المزخرف في مورانو، بداية من القرن السادس عشر، وقد عرفوا تقنية الأواني المنفوخة باستخدام عصي أو قضبان من الزجاج عديم اللون أو الملون. وظل هذا الأسلوب شائعاً لأكثر من 200 عام.
لم تكن مورانو موقع تصنيع الزجاج الوحيد. كانت المدن الأخرى الخاضعة لسيطرة البندقية تصنع الزجاج أيضاً: بادوفا وفينسينزا وتريفيزو. كانت أفران مورانو مغلقة بموجب القانون من يوليو إلى أكتوبر، لذلك كان العمال يهاجرون غالباً إلى مدن أخرى للعمل. خلال عصر احتكار الزجاج في البندقية، كان الحرفيون ينتقلون من مدينة إلى أخرى ويعملون في مصانع مختلفة.
ظلت فينيسيا محتفظة بسمعتها الإبداعية الزجاجية ومصانع زجاجها الرائدة حتى اليوم، وعلى الرغم من بزوغ نجم العديد من مصانع ومصنعي الزجاج بالعالم في عصرنا الحديث إلا أن لقب عاصمة الزجاج لم تُحققه دولة أوروبية أخرى..!
وإذا تابعت الرابط التالي ستتعرفون على: تاريخ الفسيفساء وكيفية صنع الإبداعات المذهلة