لطالما شكَّل النسيجُ المغربي تحفةً فنيَّةً، تستمدُّ جمالها من القارتَين الإفريقيَّة والآسيويَّة، وتجسدُّ تضاريسَ المغربِ العربي، الذي يمتدُّ من المحيطِ الأزرقِ إلى عمقِ الصحراءِ، إذ تُقدِّم تموُّجات الأزرقِ، وسخونةُ الرمالِ المترامية مصدرَ إلهامٍ لا ينضبُ لصناعةِ النسيجِ، الذي يختاره بعضُ الناس هويَّةً لهم قبل أن تكونَ وسيلةً تقيهم عواملَ الطبيعة. سنأخذكِ سيدتي في هذا المقالِ بجولةٍ، لنتعمَّق معاً في تأثيرِ المغربِ العربي على الموضةِ الحديثة، وأعمالِ المصمِّمين بدءاً بإيف سان لوران، وإيلي صعب، وزهير مراد، وستيفان رولان، مروراً بتوري بورتش، ولاكوان سميث، وانتهاءً بسارة شرايبي، لنكتشف سحرَ الشمالِ الإفريقي من خلال إبداعاتِهم.
Exotic Blend
الموضةُ المغربيَّةُ مزيجٌ فريدٌ، تختلطُ فيها الحضاراتُ العربيَّة والبربريَّة والأندلسيَّة والفرنسيَّة، وهو ما يجعلها حتى اليوم مصدرَ إلهامٍ للمصمِّمين الجددِ والقدامى، ولا تزالُ اتجاهاتُ الأزياءِ في المغربِ العربي ملموسةً حتى في إطلالات الـ «ستريت ستايل» التي يتبنَّاها الشبابُ دون وعي أحياناً. فمن أين استقت هذه الموضةُ جذورها، ولِمَ شكَّلت مصدرَ إلهامٍ لا ينضبُ لمصمِّمين كبارٍ أمثال إيف سان لوران Yves Saint Laurent، ولماذا تستمرُّ حتى اليوم مع المصمِّمين الجدد؟
في «أسبوع باريس للهوت كوتور» الأخيرِ لـ «ربيع وصيف 2024»، برزت الأزياءُ المستوحاةُ من الحضارةِ المغربيَّةِ، من جلَّابياتٍ وقفاطينَ وإيحاءاتٍ، تستعيدُ الحضارةَ المغربيَّةَ، والقماشَ الأيقوني الذي اشتهرت به على مدى أعوامٍ طويلةٍ. ولعل القطعَ الأكثرَ أيقونيَّةً، هي الجلَّابيَّةُ، أي الرداءُ المزوَّدُ بغطاءٍ للرأس، والقفطانُ الذي يعدُّ جوهرةَ الأزياءِ المغربيَّةِ، لكونه ينفَّذ من أرقى الخاماتِ المطرَّزةِ بالخيوط الذهبيَّة، والأحجارِ القزحيَّةِ الملوَّنة، ونراه عادةً في حفلاتِ الزفاف. كذلك نستمدُّ الإيحاءاتِ البربريَّة من الأقمشةِ المحاكة يدوياً التي تتميَّزُ بطبعاتٍ هندسيَّةٍ ملوَّنةٍ. واليوم تتَّخذُ الموضةُ المغربيَّةُ منحى أكثرَ شبابيَّةً مع مصمِّمين، استقدموا الجلَّابيةَ، ونسَّقوها مع سروالٍ من «الدنيم»، واستلهموا منها ملابسَ من الساتانِ مزوَّدةً بغطاءٍ على الرأس. لقد تخطَّى تأثيرُ الموضةِ المغربيَّةِ المشرقَ العربي، ليصل الى العالميَّة، خاصَّةً مع مصمِّمين جددٍ أمثال زينب جندي، وأمين بندريويش اللذين نقلا الموضةَ المغربيَّةَ إلى مصافٍ عالمي عصري، يلبِّي تطلُّعات النساءِ من كل أنحاء العالم.
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط
إيف سان لوران..
استردادُ الروحِ في المغرب
من سان لوران إلى سارة شرايبي، تتالت أسماءُ المصمِّمين الذين وقعوا تحت تأثيرِ سحرِ المغربِ العربي، فالمصمِّمُ إيف سان لوران، زارَ في الستينياتِ الميلاديَّةِ الدار البيضاء، وأُغرِم بألوانها الاستوائيَّةِ، ودفء شعبها، وأعاد ابتكارَ القفطانِ، والجلَّابيَّةِ، والبرنسِ، والطربوشِ على طريقته الأوروبيَّةِ، وجعل النجماتِ والعارضاتِ الـ «سوبر موديلز» يرتدينها، فراجت بسرعةِ البرقِ. ومن أكثرِ القطعِ الأيقونيَّةِ التي ارتبطت بالحضارةِ المغربيَّةِ «سترةُ السفاري» أي «Safari Jacket» التي ابتكرها عام 1968. لقد تأثَّر المصمِّمُ بالمغربِ لدرجة أنه أصبح وطنَه الثاني، وحول ذلك يقول: «ثمَّة حدائق في المغربِ، تحتوي على ألوانٍ، شغفتُ بها، وأفتقدها في باريس». كذلك شكَّلت له الفيلا التي كان يمتلكها في البلادِ مصدرَ إلهامٍ بألوانها، لذا طغت ألوانُ الزهري والأحمر والأصفر والأزرق البحري على تصاميمه، واستعانَ من وحي موطنه الثاني بتقنياتِ التطريزِ بحبيباتِ الخرزِ الخشبيَّة، واللؤلؤ، وحبال الرافيا. وعام 2017 أقيم متحفُ سان لوران الجديد في مدينةِ مراكش المغربيَّةِ لعرض تصاميمه المستوحاةِ من المغربِ بعدما صرَّح المصمِّمُ مراراً أنه اكتشف الألوانَ في المغربِ، عقب فترةٍ، كان يصمِّم فيها بالأبيض والأسود، مؤكداً أنه وجدَ هناك ما افتقده منذ طفولته في الجزائرِ، فعندما تسلَّم مهامه التنفيذيَّة لدى «ديور» أواخرَ الخمسينياتِ، سافر إلى الجزائرِ، وعاد بـ 600 تصميمٍ، نفَّذ منها نحو 200، فالألوانُ تحرِّكه، ولطالما كره رماديَّة باريس.
لقد اكتشف في المغربِ ذاته، واستردَّ روحَه. وحظيت أوَّل مجموعةٍ مستوحاةٍ من حرارةِ ألوان المغربِ العربي لدى «ديور» بنجاحٍ كبيرٍ، وسمَّاها «Trapeze»، نظراً لغناها بالألوانِ والتصاميمِ الهندسيَّة للقطع. وعندما أسَّس ماركته الخاصَّةَ مع شريكه بيار بيرجيه، كان قادراً من المغربِ على تصميمِ 1000 نموذجٍ في غضون أسبوعين، وكان ينفِّذُ أربع مجموعاتٍ سنوياً بأفكارٍ غزيرةٍ، ومخيِّلةٍ لا تنضبُ، مستعيناً بدمى ورقيَّةٍ، اخترعها على منضدةٍ في مكتبه لمعاينةِ تصاميمه قبل تنفيذها، وكأنَّها خربشاتٌ بالأبيضِ والأسودِ، تتحوَّلُ شيئاً فشيئاً معه إلى لوحةٍ من ألوانٍ.
هل تريد الاطلاع على عبايات وقفاطين عالمية طبعت أسبوع باريس للموضة الراقية 2024
لغز الأقمشة وطبعاتها
يحتفي النسيجُ المغربي بطبعاته الأيقونيَّةِ بالحياةِ وحلاوتها، والتعدُّديَّةِ الثقافيَّةِ، والروحانياتِ، وتتميُّزُ بمربعاتٍ، تضمُّ مجسَّم الألماسة المعروفة باسم «Zellige» التي نراها على أرضِ البيوتِ في المغربِ العربي، وعلى هندسةِ البيوتِ، وتتَّسمُ بألوانٍ حيويةٍ مثل الفسيفساء التي تُزيِّن بلاطَ البيوتِ المغربيَّة. تلبي هذه الموضةُ معاييرَ الاستدامةِ، ففنُّ الحياكةِ اليدويَّةِ المتقنةِ تقليدٌ، تتوارثه الأجيالُ، ويتجذَّرُ في عمقِ ثقافة المغربِ العربي، لا سيما في حياكةِ النسيجِ، وتقنياتِ تطريزه التي تحرصُ الدور المغربيَّةُ على الالتزام بها حفاظاً على الإرثِ والتقاليدِ.
تُولِّدُ الموضةُ المغربيَّةُ مشهديةً ساحرةً من حضارةِ الشرقِ والغربِ، ولطالما شكَّل القماشُ المغربي أرضاً خصبةً لمخيِّلة المصمِّمين العالميين، فأبدعوا مجموعاتٍ حاكت إرثَ هذه الحضارة. وتتميَّزُ الأقمشةُ المغربيَّةُ بألوانٍ حارةٍ وباردةٍ، يطغى عليها البرتقالي المحمَّر، والأزرقُ المحيطي، وتتمُّ الاستعانةُ برسومٍ وطبعاتٍ كبيرةٍ، غير أن الحرفيين معروفون ببراعتهم في تصميمِ الأحذيةِ، ومنها البابوش «Babouche»، وهو حذاءٌ مسنَّنٌ مقفولٌ من الأمام، ودون كعبٍ، وأحذية «الرافيا» أي المصنوعة من حبالِ القشِّ المتينِ التي تلقى رواجاً كبيراً اليوم.
ما رأيك بالتعرف على أجمل موديلات تنانير ربيعية
عالم من الألوان الحارة
الألوانِ المغربيَّةِ التي طبعت عالمَ الموضةِ تتدرج من الأزرق النيلي الذي يرمزُ اللونُ إلى الحكمةِ والروحانياتِ، ويقترنُ بمدينة شفشاوان المعروفةِ بأبنيتها المزخرفةِ بالأزرق. كذلك التيراكوتا Terracotta والذي يجسِّدُ بدرجاته الترابيَّةِ الاتزانَ والدفء، ونشاهده يتموَّج بشكلٍ رائعٍ إذا زرنا مشاغلَ لصناعةِ الفخارِ في بلاد المغرب. أما لون الزعفران الحيوي فيرمز إلى الفرحِ والطاقةِ الإيجابيَّةِ، ونراه في الأسواقِ الشعبيَّةِ العتيقة.
وردة الصحراء المغربية ببصمة عالمية
استوحى المصمِّمُ العالمي إيلي صعب مجموعتَه الراقيةَ من وردةِ الصحراءِ في المغربِ، واستعان بألوانِ الباستيل، والكاب المطرَّز بخيوطٍ وأحجارٍ من الذهب. وبصم زهير مراد فنَّ الأرابيسك مجموعة زهير مراد الراقيةَ، إذ رأينا التطريزَ البرَّاقَ بخيوطٍ ذهبيَّةٍ وفضيَّةٍ، وتجلَّت روحُ المغربِ مختلطةً بإيحاءاتٍ فينيقيَّةٍ، فظهر غطاءُ الرأسِ الذي نراه في الجلَّابيَّةِ المغربيَّةِ. ونقلنا المصمِّمُ ستيفان رولان إلى الصحراءِ المغربيَّةِ بما فيها من تموُّجاتِ الضوءِ وانعكاسه على الرمالِ، وتلوُّنِ أشعةِ الشمسِ والظلالِ على الكثبانِ. بدورها أذهلت المصمِّمة المغربيَّة سارة شرايبي باريس بعرضها الراقي الأخيرِ المستوحى من هندسةِ المغربِ، وجمالِ القناطرِ، والكتاباتِ العربيَّةِ المحفورةِ على الجدران.
يمكنك أيضًا الاطلاع على أسرار البدلات النسائية مع المصمم نمر سعادة