الاختلاف بين الناس أمر وارد يحصل بين الأب وابنه والأخ وأخيه والجار وجاره والزوج والزوجة، والزميل وزميله، فالله خلق الناس مختلفين في أفكارهم وقدراتهم وآرائهم ورغباتهم العامة والخاصة، ولذلك لا يتصور أن يتفقوا دائمًا في كل شيء، فالآراء تختلف والمقاصد تختلف أيضًا، ولذلك كان لابد من الإصلاح بين المتخاصمين ورأب ذلك الصدع وقطع سبل الخلاف والنزاع.
للحديث عن الاصلاح بين الناس تلتقي «سيدتي» الشيخ الدكتور إبراهيم عبدالكريم السنيدي، أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.. وسألناه بداية:
> ما منزلة الإصلاح بين الناس؟
الإصلاح بين المختلفين والمتخاصمين منزلة عظيمة عدها الله عز وجل من خير الأمور بل الخير منحصر فيها وما شابهها في النفع، قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} بل أكد سبحانه وتعالى أن الصلح كله خير:«وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» ولما اختلف الصحابة بعد غزوة بدر في توزيع الأنفال لامهم الله على ذلك وطالبهم بإصلاح ذات بينهم، وقرن ذلك الأمر بالتقوى. قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فطالب بإصلاح ذات البين؛ لأن فساد ذات البين هي الحلقة التي تحلق الدين كما جاء في الأثر. كما طالب الله عز وجل المؤمنين بالإصلاح بين إخوانهم عندما يقع بينهم خلاف مهما كان نوعه، وهذا من مقتضى الأخوة الإيمانية أن يسعى المسلمون بالإصلاح بين إخوانهم إذا وقع بينهم خلاف أو خصام أو تكاره وتباغض. يقول عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}وهذا أمر، والأمر على إطلاقه للوجوب فدل ذلك على أن من الواجب على كل مسلم ومسلمة علم خلافًا بين إخوانه المسلمين سواء أكانوا أقارب له كالأخوة وأبنائهم والأعمام وأبنائهم، أو أباعد كالجيران وأهل الحي الذي يسكنه أو سائر الزملاء، فعليه أن يبادر بالإصلاح بينهم، ويقدم النية الحسنة، وهو بذلك ساع في خير وسائر في طريق خير طالبًا رضى الله أولاً ثم نفع المسلمين ثانيًا، وكل ذلك من أشرف الأعمال وأعظمها، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع خلافًا بين أصحابه أو أي جماعة من جماعات المسلمين يبادر بنفسه للإصلاح بينهم.
الكذب المباح
ولحرص الإسلام على هذا الأمر العظيم -الإصلاح بين الناس- فقد عد الرسول صلى الله عليه وسلم الكذب للإصلاح من الكذب المباح، فقد روت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا» متفق عليه. فانظـر يا رعاك الله إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف سعى لجمع الكلمة ورأب الصدع والتفاف القلوب حول بعضها، فإذا عرفت حال شخصين متخاصمين، فذهبت للأول وقلت إن فلانًا يثني عليك ويذكرك بخير وإن لم تسمع منه ذلك، وإنما قصدت الإصلاح بينهما وتطييب قلبه نحو صاحبه، ثم تأتي للآخر وتقول له مثل ما قلت للأول لنفس الغرض فإنك قد سعيت بالإصلاح بينهما، ونميت الخير الذي هو من أعظم مقاصد الشريعة.
ثمار الإصلاح
> ما ثمار الإصلاح بين الناس؟
بالإصلاح تزول الضغائن، وتتآلف القلوب، وتسود المحبة، ويجتمع الناس بقلوبهم وأجسادهم متحابين متآلفين ساعين لنفع الناس وما يقربهم إلى رضا الله عز وجل، وما يكسبون به الدنيا والآخرة. وأما القطيعة والتباعد والتشاحن فمن شأنها قسوة القلوب وغضب علام الغيوب وهي نتاج الانقياد خلف الهوى والشيطان.
وسائل الإصلاح
> ما الوسائل المعينة للمرء في مسيرته الإصلاحية؟
لا شك أن هناك وسائل معينة ينبغي أن يفيد منها مريد الإصلاح، لربما كانت رافدًا له في مسيرته الإصلاحية، ولعل من أبرزها:
1ـ
إخلاص النية في هذا العمل فإن المرء إذا أخلص النية وصدق فيها يوفق بإذن الله لما أراد، فإذا صدق المصلح في إصلاحه، وأراد الخير وفقه الله إلى الخير، ولذلك قال الله في حق الحكمين اللذين يختارهما الزوجان عند الاختلاف بينهما: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}، ولذا جاء في الأثر أن أحد الخلفاء الراشدين لما عرض عليه أمر شخصين حكما في قضية زوجين ولم يتفقا، جلدهما واستدل بقوله تعالى: «إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا»، فقال إنكما لم تريدا الإصلاح، ولو أردتماه لتحقق لكما ذلك أو كما قال – رضي الله عنه -.
2ـ
احتساب الأجر عند الله عز وجل، وهذا الأمر إذا ترسخ في قلب المصلح سهل عليه مهمة الإصلاح من جهة وأحس بطعم السعادة رغم الجهد والعناء الذي يلاقيه، وفوق ذلك هيّأ نفسه وكان مستعدًا لكل مشكلة قد ترد عليه أو تنبني على مشواره الإصلاحي. أما إذا كان هدف المرء الثناء من هذا وكسب رضا ذلك أو عرضًا في الدنيا فسرعان ما ينثنـي ويتراجع لأي عارض يعرض له، فالدافع الوهمي سرعان ما يزول ويضمحل.
3ـ
أن يستحضر كل الوسائل المعنية له في مهمته، فإذا كان المختلفان اللذان يُراد الإصلاح بينهما ممن يرغبون في المال قدم المصلح لهما المال، ولذلك جعل الشارع من مصارف الزكاة الغارمين، وهم الذين يغرمون من مالهم للإصلاح بين الناس.
وإن كان المختصمان ممن يحبون الجاه فعلى المصلح بينهما أن يصطحب معه من ذوي الجاه الذين يرى أن بوجودهم مساعدة له في تحقيق هذا الصلح وإتمامه له.
وإن كانا ممن يحبان الثناء أثنى عليهما في حدود المشروع أي أنه يستغل كل فرصة لزرع الصلح وإعادة الأمور في نصابها حتى لو أدى الأمر إلى الكذب للإصلاح، فلا بأس بذلك. يقول صلى الله عليه وسلم «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس...» الحديث، فلو جاء لأحد المتخاصمين وقال إن فلانًا – وهو خصمه – يمدحك ويثني عليك، وحاول أن يذكر ما يمتاز به هذا الشخص من خصال، وقال إن فلانًا يثني عليك ويقول كذا وكذا ثم يأتي للآخر، ويقول له مثل ما قال للأول من عبارات الثناء من الأول فله ذلك وإن كان كاذبًا، وهما لم يقولا ذلك فهذا من الكذب المباح الذي يراد منه الإصلاح بين الناس.
وإن كان المتخاصمان ممن يحبون الهدية حمل المُصلح معه من الهدايا ما يطمع أنه يحقق المصلحة.
4ـ
ولا بأس أن يشترك في هذا العمل النبيل أكثر من شخص. هذا بماله وهذا بجاهه، وهذا بلباقته وحسن عباراته وهذا لقرابته من الاثنين مثلاً، المهم الوصول إلى الهدف الأسمى وهو الإصلاح بين المتخاصمين وتطييب القلوب وإزالة الضغائن منها.
أهمية لجان الإصلاح
> ما مدى أهمية وجود لجان إصلاح في الأسر والأحياء والقبائل ونحو ذلك؟
إن من الواجب أن يفطن العارفون ومحبو الخير إلى التأسيس لهذا المنهج العظيم، وهو الإصلاح، وذلك بأن تقوم كل أسرة أو قبيلة باختيار مجموعة من الأشخاص؛ ليكونوا بمثابة لجنة إصلاحية لفض المنازعات التي تحصل داخل هذه الأسرة أو تلك القبيلة، ومن الممكن عمل مثل ذلك في الأحياء السكنية يستفيد منها أهل الحي في الإصلاح، فيما قد يحصل بين بعضهم من إشكالات أو تنافر، ويستفيد منها غيرهم أيضًا في هذا الشأن، وهو باب عظيم نافع للمسلمين، ولمن يقوم به في الدنيا والآخرة.
صفات المصلحين
> هل كل شخص يصلح لمهمة الإصلاح بين الناس،أم أن هناك ضوابط معينة ينبغي أن تتوفر لمن تسنم هذه المهمة العظيمة؟
ليس كل شخص يصلح لهذه المهمة وإن بذل نفسه وأبدى استعداده، ولذا فإني أرى أن يحرص من يختار هذه اللجنة الإصلاحية على أن تتوفر في المختارين صفات عدة، لعل من أبرزها:
1ـ
أن يتصف كلٌّ بالحكمة والحنكة وحسن الرأي وبُعد النظر ورجاحة العقل؛ لأنه سوف يتعامل مع مشكلات شتى وأفهام مختلفة.
2ـ
أن يتصف بالحلم والسماحة ولين العريكة ودماثة الخلق وحسن المعشر؛ حتى يتقبله الناس ويتقبل الناس منه.
3ـ
أن يحظى بمحبة غالبية الأسرة، أو أهل الحي له، وهذا أدعى لقبول الناس لوساطته وسهولة اتصالهم به وإحسانهم الظن به وقبول مبادرته.
4ـ
اتصافه بالصبر وعدم العجلة بل يكون دأبه التريث في التعامل مع الأمور، والحرص على الإلمام بحيثيات الأمر، فإن المرء إذا كان من طبعه الاستعجال فلن يمكنه هذا الخلق من استيفاء ذلك الموضوع محل النقاش أو الخلاف، ومن ثم وضع يده على مكمن الخلل ومحاولة إصلاحه، بل ربما كان سطحيًّا في استيفائه للموضوع، وفي الغالب لا يصل إلى مراده.
كما أني أوصي من يتولى هذا الأمر بعد الوصية بتقوى الله عز وجل بأن يتنبه للأمور الآتية:
أولاً: أن يكون حافظًا لما استودعه الناس من أسرار فإن المصلح في الاختلافات خاصة الأسرية ربما يطلع على أسرار لهذا أو ذاك يطلعه عليه أحدهما أو كلاهما من باب أن يبرئ ساحته عنده، فعليه أن يتقي الله ولا يفشي سرًّا اطلع عليه؛ فكشف هذه الأسرار تكون له آثار عكسية مزرية إذ ربما يورث مشاكل أعظم من الحال الأول.
ثانيًا: أن يتحرى العدل -وهو يصلح- ما أمكن، وإقناع كلٍّ بحقه فلا يكون الصلح إرضاء لواحد على حساب الآخر؛ لأني أخشى أن يقبل ذلك مجاملة للمصلح ثم سرعان ما يرجع لوضعه السابق.
ثالثًا: أن يكثر مريد الإصلاح من الدعاء وسؤال الله التوفيق، وأن يحسن مقاصده، وعليه أن يطلب من المتخاصمين سؤال الله التوفيق والهداية للحق؛ لتتجه القلوب لله عز وجل وهو سبحانه مصرف القلوب، وعليه أن يذكرهم بأهمية الصلح وأنه خير، وأن فيه انتصارًا على الشيطان الذي لا يهدأ له بال؛ حتى يرى الخلافات والنزاعات تفشو بين الناس، لاسيما الأقارب والأرحام، فللشيطان في ذلك مآرب شتى وهو حريص كل الحرص على الفرقة بين الزوجين، خاصة لما يترتب على ذلك من مفاسد لا يحصي كنهها إلا الله عز وجل، فقبول الصلح فيه انتصار على الشيطان ودحض لكيده، وفيه حفظ للعمل الصالح لكلا المتخاصمين؛ لأن الخصومات والنفرة والكره لا تخلو من الغيبة والنميمة، وربما الكذب والفحش، ولذلك كان في الصلح إقفال لهذا الباب وحفظ للعمل، فمعلوم للجميع أن الغيبة والنميمة من الكبائر، وأنها تأكل الأعمال كما تأكل النار الحطب. أسأل الله التوفيق والسداد للجميع.
الدكتور عقيل
في ظل آية
يقول الله عزَّ وجلَّ: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ...}، فالله سبحانه وتعالى جعل الخيريَّة في هذه الآية في ثلاثة محاور:
الأول: الصَّدقة بذل ومساهمة، بأن يبذل المرء من ماله أو يساهم بدعوة أهل الخير للبذل في سبيل الله على المحتاجين، لا سيما مع شدة الحاجة كالأرامل والمطلقات والأيتام ونحو ذلك.
الثاني: المعروف والأمر به والحثّ عليه، وهذا باب أوسع يشمل الصدقة وغيرها من أنواع البرِّ والإحسان ونصح الناس ودعوتهم للخير وتحذيرهم من الشرِّ، ومن كل ما يضر بهم في أمر دينهم ودنياهم.
الثالث: الإصلاح بين الناس، ذلك العمل المبارك الذي كان يجعل له النبي، صلى الله عليه وسلم، المنزلة العالية بين سائر القرب، فكان صلى الله عليه وسلم، يدرك أهمية الإصلاح، ولذا فإنَّه، صلى الله عليه وسلم، لا يكاد يعلم بمشكلة تقع بين أي من أصحابه إلا بادر إلى الإصلاح بينهم. يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه، قوموا نصلح بين آل فلان؛ لأنَّ الاختلاف بين الناس هي الحالقة التي تحلق الدين، كما ذكر المصطفى، صلى الله عليه وسلم. وإذا فكَّرنا إخواني في واقع مجتمعنا، فإنَّنا نجد -وللأسف الشديد- خلافات بسيطة وقعت في أوساط عدد من الأسر، وترتبت عليها قطيعة رحم ولعدة سنوات، وربما زادت على عشرين سنة مقاطعة بين أب وابنه، أو ابن وأمه، أو أخ وأخيه، أو جار وجاره، فأين المصلحون من هؤلاء؟ أين الباحثون عن الجنة؟ أو ليس الإصلاح من خير العمل؟ لماذا إذن تركناه وزهدنا في عظيم أجره؟!
إنَّ المنهج الحق أيُّها الأحبَّة، أن يبادر الأخيار فور سماعهم لمشكلة ما، إلى الإصلاح ورأب الصدع؛ ليزول الخلاف وتصفو القلوب ويذهب الجفاء والشحناء، ويحل محلهما الوفاء والودُّ والمحبَّة، ويقطع الطريق على الشيطان فهو أساس كل بلاء وشرٍّ