ثم أدركت بعد كلِّ حالات الفقْد المفاجئ، وبعد كلِّ تلك الهزَّات النفسيّة التي أصابت روحي فوق محطّاتِ الفراق
أن الذاكرة لا تحتفظ بكلِّ التفاصيلِ، ولا تحتفظ بكلِّ الوجوه، ولا تحتفظ بكلِّ المشاعر كما هي عند مولدها الأول، وأنها قد تتعرَّض على قارعةِ العمر لنَزْفٍ داخليِّ تسقط معه الكثير
من محتوياتها، فلا يتبقى فيها سوى حقائق الأشياء..
فوحدهم أبْطال المشاعر الحقيقيّة يبقون في الذاكرة كوشْم أبديِّ، وكنحتٍ قديم على حجرٍ أمْلَسٍ، وكأنهم تلك العبارات التي نُقشت على جدرانِ عقولنا منذ الصِغَرِ، والتي كلما كبرنا كبرت معنا..
فالبعض يلتصق بالذاكرةِ بقّوةٍ وكأنه يذوب فيها حتى يصبح جزءاً منها، والبعض يكون ضِدّ النسيان، وضد الاسْتسلام للرحيلِ، وأقوى من كلِّ الرياح العاتِية التي قد تتعرَّض لها الذاكرة على طرقاتِ العمر..
ففي مرحلةٍ من العمرِ نتوقّف لالْتِقاطِ الأنْفاسِ، ولإعادةِ حسابات القلوب، ولترتيب قائمة الأمنيّات، ولتصنيفِ الأدوار والمسمّيات، ولاسْتِخْراجِ الحقائق من أكْوامِ الأوهام المُتراكمة أمامنا..
ولنكتشف أن الخلود في قلوبنا دائماً للأشياء الحقيقيّة، أمّا التفاصيل الأخرى فهي تتجرَّد من قوتها مع الأيّام، وتنْسكب منا على قارعةِ العمر دون أن نشعر بسقوطها. فهي تسقط كأمنيةٍ قديمة فقدت زمنها ومكانها، فلم يعد يهمنا الاحْتفاظ بها، كما لا يؤلمنا خروجها منا..
عفواً .. كتبت كل تلك المقدمة فقط؛ كي أخبرك أنك الوجع الذي مازال يمسك بيدي ويرافقني في كلِّ الأزمنةِ، وأنك الحكاية التي لم أصل يوماً إلى صفحتها الأخيرة وسطرها الأخير، وأنك الحلم الذي كان يغتسل تحت أمطار العمر دون أن يفْقد بريقه أو صلابته أو أَلْوانه، وأنك الصدفة التي عشت عمري بانْتظارِ فرحتها ودهْشتها..
كتبتُ كل تلك المقدمة عن المتساقطين من الذاكرة؛ كي أخبرك أنه في كل حالةِ نزْف تتعرّض لها ذاكرتي كنت أنت الباقي الذي لا يسقط مع منْ يسقط، ولا يختفي مع منْ يختفي..
ففي كلِّ مرحلةِ نسيانٍ مررت بها كنت أنت ذلك النحت الذي حدثتك عنه، وذلك الوشْم الذي لا يُمسح ولا يَزول..
قَبْلَ النهايةِ بقليلٍ:
أخبرني كيف تحوّلت إلى وشْمٍ بهذا العمقِ، وأنا لم أنسخك يوماً على جلدي!
***