في أغسطس (آب) الماضي رحل الكاتب والأديب الإماراتي (حبيب الصايغ) الصديق الوفي للوطن والقلم والكتابة...
والذين عرفوا حبيب الصايغ عن قرب، أدركوا أن هذا الرجل المبدع لن يتكرر، وأنه حين قال وداعاً أصاب القلوب التي تحترمه وتدرك قيمة أدبه بوجع كبير.
إنها ليست كتابة متأخرة عن رحيله...
لكنها استيعاب بطيء لحزن طرق بشكل مفاجئ، فبعض مفاجآت الحزن نحتاج إلى الكثير من الوقت لاستيعابها، ولإدراك أنها ليست إشاعة عابرة تبطل بنفيها، وأنها حقيقة مبعثرة لعقول تجد صعوبة في التأقلم معها، فبعض الحزن يأتي كطوفان قوي لم تتهيأ له حياتنا، ليتركنا بعد أن يمرنا بحالة من الذعر، وحالة من الصمت تشبه العجز كثيراً...
فبعض الأوجاع نفشل في كتابتها، وبعض الأحزان تتحاشاها أقلامنا بإصرار، وبعض المواقف تأبى أن تتحول إلى مجموعة كلمات على ورق...
كتلك المواقف التي يكون الموت فيها البطل الوحيد، والمؤرخ الوحيد، والكاتب الوحيد...
فتواقيت الموت تختلف عن تواقيت أحلامنا...
فنحن قد نقطع مسافة، دون أن ندرك أنها السفر الأخير، وقد نحتسي قهوة دون أن ندرك أنه الفنجان الأخير، وقد نكتب قصيدة دون أن ندرك أنها القصيدة الأخيرة، وقد نضحك مع الرفاق كثيراً دون أن ندرك أنه الفرح الأخير، وقد نهاتف أحدهم دون أن ندرك أنها المكالمة النهائية...
وقد نطوي طرف صفحة في كتاب، دون أن ندرك أننا لن نعود لإكمال القراءة...
فنحن قد نمارس الأشياء للمرة الأخيرة دون أن ندرك أنها الأخيرة...
فبعض الفراق لا مقدمات له، ولا تسبقه مهلة نرتب خلالها كل بعثرة لنا فوق الأرض، أو نصافح بها القلوب قبل الرحيل، أو نلوح فيها للأرض مودعين، أو نترك بها كلمة شكر على عتبات تلك الأبواب التي لطالما استقبلتنا كأنها وطن كريم...
بعض الفراق لا يمنحنا فرصة التوقف لالتقاط الأنفاس، أو للتجرد من كل أحمال العمر والتحول إلى طيور صغيرة لا يلتصق بها سوى الريش والأجنحة...
بعض الفراق لا يمنحنا مهلة للتخلي عن أقلامنا، أو لإخفاء أوراقنا قبل الرحيل في مكان ما.
فنحن قد نرحل فجأة، دون أن يسعفنا الوقت لإغلاق الأبواب والنوافذ، وإسدال الستائر، والنوم به دواء بعد أن نبتسم في وجه الحياة ابتسامتنا الأخيرة...
وهكذا غادر المبدع (حبيب الصايغ)
لم يلوح بيده، ولم يقل وداعاً، ولم يصافح يد الحياة،
رحل تاركاً كل الأشياء خلفه في حالة ذهول،
إنه الرحيل الذي يسلبنا حق الوداع الأخير.
قبل النهاية بقليل:
ليس كل بكاء... يعبر عنه بالبكاء...