قد تكتشف يوماً بأنك دللت الحياة للدرجة التي أفقدتك قدرة السيطرة عليها، وأنها أصبحت بالنسبة لك بمثابة أنثى ثرثارة، كلما همست في أذنيك ملأتك بالصخب والضجيج، أو كأنثى عنيدة غيرتك في الوقت الذي كنت تسعى فيه لتغييرها، وأن إصرارك على الجري خلفها قد حولك إلى كتلة من وهن، فأمسيت بأمس الحاجة لالتقاط أنفاسك بهدوء، وللجلوس فوق ذلك المقعد البعيد، في ذلك الركن الهادئ من العمر، ومتابعة الأحداث والناس بصمت عميق..
فذات مرحلة من العمر ستشعر أن حياتك أصبحت مجرد محطة باردة، مرت منها القطارات على غفلة منك، وتركت بك من ضجيجها الكثير، وأنك كلما حاولت تقليص مساحات ذلك الصخب بك، اتسعت مساحاته رغماً عنك.
وأنه أصبح يلاحق كل بقعة هدوء تلجأ إليها، وأن الأغنيات التي أحببتها ذات إحساس كانت مجرد حالة صخب، وأن الأحاديث التي تقاسمتها مع رفاقك كانت حالة صخب، وأن الحوارات التي تبادلتها مع أقرانك كانت حالة صخب، وـأن كل حالات الغضب التي مررت بها كانت حالة صخب، وأن كل تلك الحالات قد تجمعت في داخلك فتحولت بك إلى كتلة ضجيج مزعج..
لذا ستفر يوماً إلى نفسك، ستضع يديك على أذنيك، وستتمنى أن تتوقف الحياة عن الثرثرة قليلاً، وستصبح لمقاعد الطرقات لديك أهمية كبرى، وستتعلم قراءة وجوه المارين بك، وستدرك أن مرافقة نفسك هي أصدق أوقاتك، فبها ستكتشف أحداث حياتك، وستتذكر أولئك الذين مروا بك وكانوا بمثابة الدروس العميقة لك، فمنهم تعلمت معنى الحب الحقيقي، والحقد الحقيقي، والاحترام الحقيقي، والكره الحقيقي، والتسامح الحقيقي. ومعهم تعرفت على مشاعر مختلفة، تختلف عن التي كانت في داخلك قبل الاقتراب منهم.
وعندها فقط ستكتشف أن للحياة وجوهاً أخرى، تختلف عن تلك التي كنت تراها من خلال أعين والديك، أو رفاقك القدامى، أو تلك التي سافرت إليها من خلال أوراق قصصك المفضلة أو خيالك الذاتي.
وأن في الحياة سلوكيات لا تشبه تلك السلوكيات التي غرست بك منذ صغرك، وأن الدروس على مقاعد الطرقات تختلف عن الدروس على المقاعد الدراسية. وستنضج بصحبة نفسك للدرجة التي لن تحرص فيها على إحكام إغلاق أبوابك، ولن تتأكد من إقفال النوافذ، ولن تحصي عدد الراحلين وعدد القادمين، وسيكون لك قدرة على تمييز الأرواح دون الحاجة إلى عشرة طويلة، أو إلى تكرار المواقف لتصنيف البشر في حياتك.
قبل النهاية بقليل:
علِّم الحياة أن تحترمك؛ كي لاترفع صوتها عليك!