أنْهيت في سبتمبر الماضي كتابة روايتي الجديدة، واكْتَفيتُ بحفظها على عَدّةِ أجهزة بعد أن اتَّخذت قرار التوقُّف عن إصْدارِ الكُتُب؛ لشعوري أن الحياة لم تعد صالِحة لولادةِ كُتُبٍ جديدة والاحْتفاء بها، وأنها أصبحت عاجزة عن عقدِ صداقاتٍ قويّةٍ بين الإنْسانِ والكُتُب.
لست متشائمة، لكنني وجدت نفسي فجأة خارج أسوار زمني، وكأنني تسلَّلتُ إلى كَوْكَبٍ آخر، وإلى زمنٍ يشبه المنفى كثيراً، زمن له ملامح الغربة ووجعها، زمن يشبه تلك المساحات المرعبة التي لا نهاية ولا أبواب خروج لها.
إنه يشبه تلك الطُرُقات البعيدة التي كنت أجد نفسي فيها فجأة حين كنت أسير في طفولتي لمسافات طويلة.
إنه الرعب ذاته الذي كان يتسلَّل إلى طفولتي عند ابتعادي عن منزلي واكتشافي اخْتِلاف وجوه المارّة حولي، وعناوين المَحلاّت التجاريّة، والطُرقات المُتَفرِّعة على جانِبِ الطريقِ.
إنه الرُعب الذي كان يَدْفَعني للبُكاءِ عند اكْتِشاف مغادرتي لدائرةِ الأمان وتسلُّلي إلى تلك المساحات التي يصعب فيها على ذاكِرةِ طفلة صغيرة أن تسْترجع خارِطة العودة إلى المنزلِ؛ فأدرك عندها أنني قد تسلَّلت إلى منطقة غريبة، وأن كل خطوةٍ إلى الأمام هي خطوة باتِّجاه الضياعِ.
لكن مساحات الضياع كانت لا تبتلعني أبداً؛ فأمي كانت تنجح دائماً في الوصولِ إلى موقعي البعيد وبإعادتي إلى دائرتي الآمنة؛ حيث الوجوه المَأْلوفة لي، وحيث المحلات التي كنت أحفظ ألْوان لافتاتها، وأسماء البَاعة فيها.
لكن من سيعيدني إلى دائِرةِ الأمانِ الآن؟ من سيعيدني وأمي أصبحت لا تقوى على البحث عني وعصاتها تعجز عن السير بها إلى حيث أقفُّ الآن في هذه المساحة المُرْعبة من هذا الزمن الجديد؟!
من سيُعيدني إلى دائرةِ الأمان يا أمي وأنا فقْدتُ الأمان منذ ذلك اليوم الذي أصبح لك فيه قدم ثالثة؟! فيومها أدركت أنني مهما ابْتعدت أو ضعت على طرقات الحياة؛ فلن يلحق بي أحد ليعيدني إلى مساحتي الحقيقيّة، وزمني الحقيقيّ، ودائرتي الآمنة!
إنه الشعور ذاته الذي أعيشه الآن يا أمي، والذي يدفعني لوأد رواياتي قبل أن يشتدَّ عودها؛ فحين نكبر تضيق دوائِرنا علينا، ونغادرها بحثاً عن الأمانِ، دون أن ندرك أن الأمان الحقيقيّ هو تلك البُقْعة التي انْتظرنا أن نكبر كي نبتعد عنها، وأن كل بُقْعة نتصالح فيها مع أنفسنا هي دائرة أمان.
قبل النهاية بقليل:
علمتني الحياة أن كل بقعة أرض ينْبض فيها قلب أم هي دائرة أمان حقيقيّ.
|