للشتاء طقوسه الجميلة والمختلفة عن بقية الفصول، فالتفاصيل في الشتاء تصبح أقرب إلى أرواحنا منها في الفصول الأخرى، وكأن صداقة حقيقية تربط بيننا وبين أبسط الأشياء المحيطة بنا، فكأننا نكتشف الأشياء للمرة الأولى، كدفء الحنين، وبرودة الفجر، ورائحة القهوة، وعذوبة صوت فيروز وهي تردد: (رجعت الشتوية)
كأنها تعلن بدء مواسم الحنين، فأغنيات فيروز هي مجموعة من حكايات دافئة، حكايات حفظنا أحداثها وأسماء أبطالها، منذ أن اكتشفنا جمال أعين (علياء) ومنذ أن غاب (شادي) ولم يعد، ومنذ أن تعرفنا على الواقفين على (المفرق) في حالة انتظار، وتعاطفنا مع الفتاة التي لم يكن ينتظرها أحد.
تلك الصبية التي كانت تشبهني في أشياء كثيرة، وكأنها تؤدي دوري على محطات الحياة، ذلك الدور الذي كان يحولني دائماً إلى أنثى في حالة انتظار، أنثى لاتغادر المحطات رغم يقينها أن ذلك المقعد البارد لن يقاسمها الجلوس عليه أحد، فهكذا كنت أشعر دائماً وأنا أؤدي تلك الأدوار بوحدة صامتة.
فوحدي كنتُ أقف على المحطات الباردة، ووحدي كنت أسير في الطرقات المهجورة، ووحدي كنت أتفقد محتويات الحكايات قبل مغادرتها وإغلاق أبوابها، ووحدي كنت أبكي تحت المطر كالمنفي عن وطنه، ووحدي كنت أقطع الوقت بصحبة كتاب على مقعد طائرة مغادرة، ووحدي كنت أُخفي رواياتي تحت غطاء سريري، ووحدي كنت أقف أمام البحر أثرثر بأحزاني، ووحدي كنت أسير في الصباحات الباكرة باتجاه اللاشيء، ووحدي كنت أتجول في المكتبات بين أرفف الكتب، وأنتشي بالإصدارات الجديدة، ووحدي كنت أغني في المساحات الشاسعة وأستقبل الصدى العائد، ووحدي كنت أرتعب من المرتفعات والأماكن المغلقة بلا نوافذ،
ووحدي كنت أغادر جسدي وأطير في الفضاء عند الفرح، ووحدي كنت أعشق اللعب بالطائرات الورقية، والرسم على الجدران القديمة، والبكاء على عتبات المنازل الأثرية، ووحدي كنتُ أمر على مدرستي الأولى، وأنادي على رفيقات دراستي من نافذة الأمس، ووحدي كنت أكتب الرسائل بخط يدي وأستخدم الطوابع البريدية، وأفتقد رنين عجلات دراجة ساعي البريد، ووحدي كنت أحتفل بأحلامي، وأصفق لإنجازاتي، وأضع باقات الورد على عتبة منزلي في ليالي ميلادي.
قبل النهاية بقليل:
انتظرتك في زمن الحب، فجئتني في زمن الحرب، حيث نجحت الراء في التفريق بين الحاء... والباء!