ندرك أنه ليس للصور أصوات تُسمع، وأنها تبقى ثابتة التفاصيل كما هي عند الالتقاطة الأولى، لكن بعض الصور يُخيل إلينا عند الاقتراب منها أنها تنادينا بأسماء أحلامنا، لنتوقف قليلاً، ولتتحول أمامنا إلى شريط متحرك، يعرض علينا أحداث الحياة التي بقيت مستمرة في قلوبنا بعد إسدال الستائر، وعجزت أرواحنا عن التخلي عنها، فللصور قدرة على إعادتنا إلى وطن البدايات، حيث الحكاية الأولى، والعاطفة الأولى، والأحلام الأولى.
كما للصور قدرة على إدخالنا في دوائر من المشاعر المتناقضة، فنفرح ونحزن ونبكي ونضحك، كأننا نؤدي مجموعة من الأدوار المختلفة في اللحظة ذاتها.
وهكذا كنت أتغير وتتلون مشاعري وتتناقض عند النظر إلى صورتك، فأتذكر تلك الليلة الأخيرة، وكيف أنك زرعت وعد العودة في قلبي، ومضيت مطمئناً أن حكايتك لن تموت مع إشاعة رحيلك الأخير، وأن تلك الأنثى التي وعدتك بالانتظار لن تغفو على محطات انتظارك، وأنها في كل ليلة ستضيء مصابيح المحطات الباردة، وتمسح أتربة مقاعد الطرقات، وهي تسرد على المارة حكايات الرحيل، وتغني لهم مواويل العودة...
مضيت وأنت على يقين أن تلك الغجرية الطيبة ستقرأ حكايتك في باطن كف كل فتاة تبحث عن الأمان، وستفسر للعاشقات كيف تصبح الدوائر في قاع الفنجان مجموعة من الأوطان، وكيف تصبح تلك الخطوط السوداء طرقات لالتقاء العائدين من مدن الفراق!
فكم ليلة يجب أن أبقى حبيسة ذكرى تلك الليلة الأخيرة وتلك الصورة الورقية؟
وكم سنة يجب أن أتظاهر بالتأقلم مع تلك النار التي اشتعلت في أطراف عمري في تلك الليلة؟ ليلة الوداع الحزينة، ذات التفاصيل الغريبة، الليلة التي لم يعقبها شروق، وكأن الشمس قد اختُطفت في مكان ما، لتعلن الأرض حالة عتمة طارئة، ولأكتشف وللمرة الأولى المفهوم الحقيقي للظلمة، ولتلك العتمة التي لا نرى فيها سوى تلك الخيالات التي ترسمها أوهامنا حين نكون في حالة هلع شديد، فنحن قد نرى في الظلمة الكثير من الصور المرعبة، والكثير من الوجوه التي تضحك بصوت مرتفع، والكثير من الظلال التي تتحرك بشكل عشوائي ليزداد الرعب في قلوبنا...
فنكتشف أن بعض النهايات ليست سوى حالة من الرعب تصيب قلوبنا الآمنة، حين يمد أحدهم يده ليدق جرس الحصة الأخيرة من حكاياتنا...
قبل النهاية بقليل:
وكأنك كنت حكاية شبيهة بالشمس، حين أُغلقت، تحولت الأرض إلى ليل دائم.
