بدأ الإعلامي والمذيع محمد أبو عبيد، بوصف قصة عشقه للغة العربية التي تطول، فقد أُغرِم بكيانها الحي؛ لأنها أكثر من مجموعة مفردات أو عبارات.. إنها كائن يتحرك، ولا عجب في ذلك، فهي اللغة المعربة وغير الجامدة، التي تستطيع من خلال مفرداتها أن تكوّن عبارات مختلفة.
حرفان ومعنى
بدأت قصة عشق محمد أبو عبيد، كما يصفها، للغة العربية عندما كنت في الرابعة عشرة من عمره، مع كتاب شرح ابن عقيل، ويحكي عن تفرد اللغة العربية بالكثير من المعلومات النادرة، التي لا يعرفها إلاّ المهتمين باللغة العربية والمبحرين فيها، يستدرك قائلاً: «عندما يأتي حرفان في كلمة واحدة، ثم نأخذ اشتقاقات هذه الكلمة، سندرك أنها تؤدي إلى معنى واحد، ولو باختلاف طفيف، فإذا التقى الجيم والنون في كلمة، فدائماً يؤدي إلى معنى الاختفاء أو غير المرئي، مثلاً: «الجنة» لا نراها، «المِجن» وهو الشيء الذي يخفيك، «الجن» لا تراه، نقول شخص «جُنّ»؛ أي اختفى عقله وذهب، وهناك الكثير من المعلومات الفريدة لكن كي لا أطيل فأمل، ولكن على الأقل، أردت أن أوجز فلا أخل».
الخوف من ضياع اللغة
تحدث أبو عبيد عن جمالية اللغة برسمها للخط العربي، فالألف إذا التقت مع اللام في أول الكلمة، فهما متساويان في الطول، مثل المدرسة.. المدينة. وإذا كان هناك حرف أقصر من الثاني سنرى فيه إخلالاً، لا يستحسنه النظر، يستدرك قائلاً: «إلا في كلمة واحدة، وهي لفظ الجلالة، التي إذا تساوت الألف واللام، ستصبح الكلمة غير مستحسنة من حيث النظر.. فأي جمال هذا الذي يكتمل بالنطق والكتابة»!؟
ما يميز العربية هو التشكيل والتنقيط، وهو متأخر، فالعرب كانوا يتحدثون، من غيرهما بالسليقة، وبعدها، وضع العلماء التنقيط والتشكيل، خشية على اللغة من الضياع، عندما سمع أبو الأسود الدؤلي أعجمياً يقرأ آية قرآنية «إن الله بريء من المشركين ورسولِه»، فتحولت الآية كفراً والصحيح قوله تعالى «ورسولُه»؛ أي الرسول أيضاً، فذهب الدؤلي إلى علي بن أبي طالب، وهو يرتجف خائفاً، وروى له ما سمعه، فأمره بوضع قواعد اللغة».
ازدهر الخط العربي، بسبب عدم ميول الفنانين في الفترات المتعاقبة إلى فن الرسم، لذلك تجد في المساجد الزخرف والخط العربي، بينما تجد الرسومات في الكنائس، يتابع محمد: «لاحظوا سورة ياسين المنقوشة على قبة الصخرة بخط الثلث؛ حيث تقيد الخطاطون بنقش الآية، بمسافة محيط القبة، مع التشكيل، «تخيلوا الجهد الذي كان يبذل آنذاك، للخروج بجمالية متقنة».
لغة الشغف
أكثر الشعر الذي يحافظ أبو عبيد على قراءته، إضافة إلى محاولاته الشعرية، هو الشعر الجاهلي؛ نظراً إلى اتساعه، فكل قصيدة ترفدك، كما يقول، بمفردات تزيد من مخزونك اللغوي، وتوقف عند بيت لامرئ القيس:
كأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَرَحَّلُوا لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ
ويروى «تحمّلوا» بدلاً من «ترحّلوا». فالشاعر، الذي يبكي في البيت لأنه يغادر المكان، أراد أن يحافظ على كبريائه، فتجنب الاعتراف بأنه بكى، فشبه نفسه بناقص الحنظل، الذي إذا شممته تدمع.
أجمل ما قرأ أبو عبيد عن العلم، هو الآية القرآنية: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ». وقد جمع الله العلم مع العمل؛ لأن العلم يجب أن يظهر بالعمل، وختم قائلاً: «اللغة العربية لغة الشغف.. المستقبل والخيال والقوة والتفرّد».