العمارة، جزء لا يتجزّأ من ثقافة المجتمع، وبمثابة مرآة عاكسة لأحوال المكان الذي تحلّ فيه والعصر والناس... تُثبت إجابات مهندسة العمارة السعوديّة سميّة جعفر الدبّاغ، في في الحوار الآتي نصّه، مع «سيدتي»، هذه الخلاصة. عن الهوية والاستلهامات وبعض المشاريع، ومنها: مركز مليحة للآثار في الشارقة، ومسجد قرقاش في دبي، بدولة الإمارات العربيّة المتحدة، والمُكرّمين بجوائز عالميّة، ومتحف العين قيد الإنشاء، تتحدّث المهندسة الدبّاغ، مع الإشارة إلى أنّه يرجع إليها فضل إرساء نسق جديد في العمارة بمنطقة الخليج أخيراً، ولقب المرأة الأولى التي تصمّم جامعاً.
كان والدك هو الداعم الأوّل لك؛ هل هو شجّعك على دراسة الهندسة أم أن الأمر كان قراراً شخصيّاً؟
كان والدي (طيب الله ثراه) داعماً لتعليم المرأة؛ والأمر ليس مفاجئاً لأن ذريته كانت مؤلفة من ستّة أفراد، في عدادهم خمس بنات. اهتمامي بالعمارة زُرع خلال مرحلة الطفولة في جدة، ومع الزيارات المتكرّرة إلى الطائف، كانت تبهرني جبال الحجاز المجاورة الرائعة، بتشكيلاتها الصخريّة، والجيولوجيا في المنطقة. وقد مدّتني بالوعي بـ «الشكل»، وكيف يمكن أن يؤثّر الأخير في الأشخاص الذين يختبرونه؟ في سنّ الثالثة عشرة، انتقلت العائلة إلى المملكة المتحدة. هناك، في المدن البريطانية الحديثة، حلّت المباني محل الجبال، وشعرت بتأثير هذه الأشكال في تجربة الوجود في المدينة. بذا، بدأ اهتمامي بهندسة العمارة.
السؤال عن الهوية
بين الدراسة في بريطانيا، والعمل في عواصم غربيّة عدة، من بينها لندن وباريس؛ هل السؤال عن الهويّة، وكيفية جعلها تظهر في العمل، كان يراودك؟
منحتني سنوات التكوين في أوروبا أساساً متيناً في التعليم العامّ، كما في تعلّم العمارة، وأوضحت لي التأثير الذي يمكن أن يُحدثه الشكل المبني في حياة الناس. لكن، لمجرّد العودة إلى منطقة الخليج، أدركت غياب النهج المذكور عن عمارة مدننا؛ فقد وجدت أن هندسة العمارة كانت مُسيّرة غالباً بشكل تجاري عوضاً أن تقودها التجربة البشريّة. فهمت حينها أن للعمارة القدرة على معالجة قضايا الهوية والسياق والانتماء للمكان وجعل مدننا ذات صلة بثقافتنا ومناخنا وعصرنا.
هويتي الخاصّة
متى اتخذتِ قرار العودة إلى الوطن العربي؟ ولماذا قرّرتِ البقاء في دبي؟
قضيت عاماً في باريس بعد التخرّج في الجامعة، فكانت الفترة محوريّة لي؛ هناك كنت مرّة أخرى في مواجهة غير مألوفة، مع ثقافة أخرى ولغة أخرى كان يجب عليّ التكيّف معها. زادت هذه التجربة من شوقي وفضولي للتواصل مع جذوري وإيجاد هويتي الخاصّة. بالمقابل، منحتني دولة الإمارات العربية المتحدة، باعتبارها بوتقة ينصهر فيها العديد من الثقافات، فرصة التعبير عن نفسي: سعودية، بقيم عربيّة وبثقافة عربيّة وغربيّة.
تابعي المزيد: الأميرة ريما بنت بندر في حلقة من بودكاست The Mo Show: علينا مواصلة تمكين المرأة
مركز مليحة للآثار
في سنّ الطفولة، بهرتني جبال الحجاز بتشكيلاتها الصخريّة، ومدّت وعيي بـ «الشكل»
مرّت 14 عاماً على تأسيس شركة Dabbagh Architects؛ هل تعتقدين راهناً أنّك فعلت الصواب في الرجوع إلى الإمارات من باريس؟
أسّست شركة Dabbagh Architects زمن الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، في عام 2008. أعتقد أن الأزمة المذكورة أدّت إلى وقفة طبيعية لإعادة التفكير، على الصعيد العالمي، فقد جعلت المستجدّات الاقتصاديّة المشاريع تتحوّل من التجارة إلى الثقافة. في عام 2012، كانت «الشركة» محظوظة بتكليفها بتصميم مركز مليحة للآثار، بإمارة الشارقة. كان هذا المشروع، الذي دُشّن عام 2016، أحد المشاريع القليلة التي تناولت التجربة البشريّة والاستمراريّة والسياق. ثمّ، أصبح مثالاً لما يمكن أن تحقّقه العمارة، فقد ابتكر نهجاً جديداً ونادراً لهندسة العمارة، في ذلك الوقت. لناحية الشركة، كان النجاح إيجابيّاً، ما فتح الأبواب أمام مشاريع ثقافيّة أخرى في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. ممتنّة شديد الامتنان لأنّي أنشأت فريق عمل رائعاً، ولفرص العمل العديدة في مشاريع عظيمة، التي أُتيحت لي على مدار الأعوام الأربعة عشرة الفائتة. ونحن هنا نشهد نقطة تحوّل أخرى، وببركات الله، نتوقع المزيد من الفرص المثيرة، في المستقبل.
في الاستلهامات لبناء مركز مليحة للآثار؛ هل كان القبر من العصر البرونزي المحيط بالموقع نقطة الانطلاق؟
كان شغف فريق علم الآثار، خلال الزيارة الأولى للموقع مُلهماً للغاية؛ فقد شعرت بأن القبر الماثل من العصر البرونزي التاريخي يجب أن يحتلّ مركز الصدارة، من دون أن يطغى عليه المبنى. أعتقد أن هذا النهج أسهم في نجاح المشروع؛ فقد كان المبنى قادراً على خلق حوار مع الجبال المحيطة والصحراء، بالإضافة إلى تاريخ المكان. كرمّ المشروع ذكرى مليحة وأعادها إلى مجتمعها.
ماذا عن تفاصيل البناء المشيّد من الطوب الرملي، والمُدوّن على لائحة اليونيسكو؟
وقع الاختيار على الحجر الرملي الأحمر لكسوة البناء، وذلك لتحقيق التناغم مع الرمال حمراء اللون المحيطة به. أضف إلى ذلك، يعكس الحجر المذكور ضوء الشمس بالطريقة عينها التي يمكن للضوء في أوقات مختلفة من اليوم أن يغمّق لون الرمال. وقت الغروب، مثلاً، يضيء اللون البرتقالي الغامق البناء، تماماً مثل الحجر الرملي الأحمر العائد إلى الصخور الأحفورية. كما يرجع اختيار الحجر الرملي، بشكل متعّمد، ليكون متميّزاً عن القبر المشيّد من الحجر الجيري البيج الفاتح. سمح اختيار المواد للمبنى بجعله يندمج بمحيطه، مع ميزة رئيسة يحملها القبر للزائر.
مسجد المرحوم محمد قرقاش
تتحدّثين عن لحظة خاصّة في حياتك شعرتِ بها، مع إتمام عمارة مسجد المرحوم محمد عبد الخالق قرقاش بدبي؛ حدّثينا عن هذه اللحظة، وعن المشروع؟
يُمثّل إنجاز أي مشروع من مشاريعنا حدثاً مُميّزاً للغاية لفريق العمل، خصوصاً أنّه في مهنة العمارة، يتخذ كلّ من التصميم والبناء دورة زمنيّة طويلة للغاية، فقد يستغرق الأمر من أربعة إلى خمسة أعوام، منذ وضع الرسومات الأوّلية حتى الوقت الذي يمكن المشي فيه داخل المشروع، بعد أن كان الأخير مجرّد رؤية في العقل. لحظة ميلاد المشروع ساحرة حقّاً؛ أي عندما تصبح الرؤية حقيقة ويتخذ المبنى حياةً خاصّةً به. كان القصد من مسجد قرقاش أن يكون وليد عصره، مع إعادة جوهر القيم الإسلاميّة إلى مقدّمة عقول الناس، ما يخلق مساحةً هادئةً وتؤهّل الإنسان للعبادة.
تابعي المزيد: الأميرة ريما بنت بندر في حلقة من بودكاست The Mo Show: علينا مواصلة تمكين المرأة
متحف العين
تعملين راهناً على عمارة متحف العين؛ ماذا عن السمات الأساسيّة للمشروع؟ وكيف تقاربين الثقافة من خلال العمارة؟
نشعر بامتياز كبير لاختيارنا لتصميم هذا المشروع الفريد؛ فهذا الموقع هو جزء من المنطقة العازلة المُصنّفة من منظّمة اليونيسكو للتراث العالمي، كما يجاور الموقع واحة العين التي يرجع تاريخها إلى 7000 عام خلت. يحتوي المشروع على مبنيين رئيسيين مهمّين، على الصعيد التاريخي: مبنى حصن السلطان المبني من الطوب اللبني في عام 1910، ومتحف العين الوطني، وهو أول متحف في الإمارات العربية المتحدة (بناه المغفور له الشيخ زايد، في عام 1971). المشروع هو بمثابة ملحق كبير للمتحف الحالي، مع الحفاظ على الهياكل القائمة وإعادة تأهيلها، ما يتيح لنا فرصة فريدة لتصميم مبنى، وجعله يدخل في حوار مع المناظر الطبيعيّة، والمعالم الثقافيّة التي تسبق وجوده. نعدّ كلّ هذه العناصر جزءاً من نظام متماسك هادف إلى الحفاظ على الهويّة الثقافيّة المحلّية وإبراز تاريخ الإمارات وتراثها.
باختصار، ما هي نظرتك إلى مستقبل العمارة والتصميم في الخليج؟
هناك تحوّل في المنطقة، لناحية النهج المتبع في العمارة والتصميم. مع المزيد من ممارسات الشركات المحلية، مثل: Dabbagh Architects، يكبر الوعي بالتأثير الذي يمكن أن تحدثه هندسة العمارة في مدننا ومجتمعاتنا. لقد بدأنا في رؤية المزيد من المشاريع، التي تُعالج القضايا ذات الصلة مثل: الهويّة والسياق والاستدامة. تعكس المشاريع مثل مركز مليحة الأثري ومسجد قرقاش قيمنا عوضاً عن عكس القيم المستعارة من الثقافات الأخرى. نتيجة لذلك، نشهد على هندسة معمارية ناشئة جديدة في المنطقة ونفخر بأن نكون جزءاً من بدايتها. هندسة العمارة، التي نأمل أن تخلق أماكن للمجتمع، بصورة تجعل مدننا تعكس قيمنا وثقافتنا. المدن التي تخلق إحساساً قوياً بالهوية والانتماء وتردّد صدى شعوبها.
صوت المهنيين الخليجيين
كنتِ تشغلين منصب الرئيسة، في فرع الخليج من «المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين - ريبا»؛ ماذا كان دورك كمتحدّثة رسمية باسم «المعهد»، في الخليج العربي؟
في عام 2009، كنت جزءاً من الفريق الذي أنشأ فرع RIBA الخليجي. وفي عام 2015، بعد أن كنت جزءاً من اللجنة، انتُخبت رئيسة لفترتين متتاليتين (2015 - 2019). خلال فترة خدمتي في RIBA، وجدت توافقاً تامّاً بين أهداف الفرع ورسالتي وأهدافي الشخصيّة؛ تتمثّل أهداف فرع الخليج في زيادة الوعي بالقيم الأساسية التي حدّدتها RIBA للمهنة والمساعدة في تحسين معايير ممارسات العمارة في منطقة الخليج. سمحت لي هذه المواءمة بأن أصبح صوت المهنيين الخليجيين، مع هدف متمثّل باستبدال بالنموذج الحالي الذي يعتمد اعتماداً كبيراً على استيراد المواهب في المنطقة، نموذج آخر يُشجّع مجموعة محلّية مستدامة من المهندسين المعماريين المحترفين المحليين.
تابعي المزيد: الرياضيات السعوديات إنجازات ومناصب وتفوق