يقال إن الصّمت تجاوز، لكن في الحقيقة هو تـآكل وإقامة دائمة في محطّات الحزن. وحدها الكتابة شفاء لخيباتِنا وآلامِنا، وتنفيسٌ، وتجاوزٌ لِعُقدنا وانكِساراتِنا.
منذ الثّمانينات، تعدّت الكتابة الهواية والأدب والإبداع، وأخذت مرتبة العلاج في عدّة أبحاث ومن بينها تجارب عالم النّفس الشّهير جيمس بيكر. فهي طريقة لتفريغ الذِّهن من الشّحنات السّلبيّةِ والأحزانِ التي تفيضُ بها النَّفس البشريّة. فالورق طبيبٌ صامتٌ يسمعُ أقوى وأعنف صرخاتنا متى شئنا، ولا يبوحُ إلّا إن سمَحنا بذلك.
إنّ الكتابة شيء عظيم. فكما تقول أنيتا بروكنر: "لقد حررتني الكتابة من يأس العيش"، أي أنّها تمنحنا فرصة أخرى لمواجهة الحياة. فهي باب يقصده السائل بكل صدقه وجوارحه ليعود مطمئناً بعد تعبيره عن أوجاعه ومخاوفه.
أنا بدأتُ الكتابة يوما لأنّه كانت كلمة "لا" حين نقولها في وجه الكبار "إثم"، لأنّ حزني وفرحي "لا يهم" أحداً غيري، ولأنّ أحلامي ورغباتي "عيب". فكان الصّمت جهراً وكانت الكتابة سراً. فلولا ذلك ما كنتُ ضمنتُ أن أكونَ على ما أنا عليه من توازنٍ نفسيّ واجتماعيّ. فلطالما جَنّبَتنِي الكتابةُ الانفجار في وجه أحدِهم، ومعانقةَ آخر والبُكاء لساعات وضحِك المعتُوهين. ولعلّ أغلبَ الكتّاب اكتشفوا أنفسهم حين رفّهُوا عنها بالكتابة. لذلك أنصح بها الجميع، فإن لم تُصبح شاعراً أو كاتباً، ستَصير شخصاً متوازناً معافى من خيباته.
اكتبوا...
اكتبوا عن الماضي والحاضر، عن الحزن والفرح واللقاء والفراق، عن الفقر والحاجة والصّبر والغنى، عن الحبّ والصّداقة والخيانة والغدر، عن كلّ ما مرّ بكم وترك بصماته.
عن تلك الأبواب المهجورة، عن الحيطان التي أكلها النّدى، والأركان التي كستها العناكب، عن رفٍّ ما عاد يُرى من غباره، وصور مالت تكاد تسقط بعد أن مرّ عليها الدّهر بفراقه وأحزانه.
اكتبوا...
عن قلوبٍ لانَتْ ثمّ قسَتْ فهجرَت، عن وجوهٍ تغيّرت تفاصيلُها، عن شَعرٍ شَاب وجبينٍ تجعّد.
عن عيونٍ تمرُّ ولا تستحِي وأخرى تمرّ بلا ذاكرة وكانت بِكُم عامرة.
اكتبوا...
عن الذي فات، الذي مات، الذي تخلّى، الذي ظلم، الذي تردّى، الذي مازال كما هو، الذي هان، الذي هُنْتُم عليه، الذي غابَ ثم عاد، الذي لم يغِب... والذي لم يعُد..
اكتبوا، ستتعافُون.