يزداد عدد النساء في مهنة التدريس ازدياداً ملحوظاً في الأعوام الأخيرة في كامل أرجاء الوطن العربي، بل في العديد من دول العالم غرباً وشرقاً، وهذا ما جعل كثيراً من الباحثين يتساءلون عن الأسباب، خاصّة أن العنصر الرجالي ما زال مسيطراً على أغلب قطاعات العمل الأخرى، بالنظر إلى الدخول المتأخر للمرأة إلى ميدان العمل خارج المنزل مقارنة بالرجل.
وبحسب إحصاءات منظمة اليونسكو لعام 2020، فإن المرأة تشكل أكثر من 55% من الجسم التعليمي في العالم، وهي ترى أن هذه النسبة مرشحة للزيادة، خاصّة في مرحلة الحضانة 94%، والمرحلة الابتدائية 67%.
ولا نستثني من هذه الظاهرة كل مؤسّسات التعليم العامّة والخاصّة؛ إذ نجد نسبة حضور المرأة في هيئة التدريس أكثر بكثير من نسبة حضور الرجل، وهذا ما يدعو إلى التفكير في هذه الظاهرة من زوايا عدّة، لا للحكم عليها، وإنّما لتحليلها وفق التغيّرات الاجتماعية والثقافية السائدة في عصرنا الحالي.
تختار البنات التوجّه الجامعي الذي يضمن لهنّ الالتحاق بمهنة التدريس، وذلك بالانضمام إلى مراكز تكوين المدرسين بمختلف أصنافها ومختلف تسمياتها حسب الدول. ويطلب عدد كبير منهن هذه المهنة فور تخرّجهن في كليّات الآداب والعلوم الإنسانية، ويتحملن البعد عن العائلات وعن مدنهن من أجل ممارسة هذه المهنة، إلى أن يستقر بهنّ المقام حين يتزوّجن.
وأبرز الحجج المقنعة لتفسير هذه الظاهرة التي يذهب إليها أغلب الباحثين هي الاستعداد الطبيعي للمرأة لتربية الأجيال، ولتمرير المعارف، وقدرتها الفطرية على الاعتناء بالتفاصيل، والاستعداد لتفهّم الأطفال والمراهقين، وتشجيعهم على الإفصاح عن مشكلاتهم ومخاوفهم.
كما تقوم الأسرة بدور مهم في ذلك؛ إذ تعدّ أن مهنة التعليم من المهن التي تجعل المرأة بعيدة عن التجاذبات والاحتكاكات بين زملاء العمل في المؤسّسات الإدارية، فهي تتعامل أغلب الوقت مع الأطفال والمراهقين، وهي سيّدة فصلها؛ إذ يقلّ تواصلها مع الإدارة أو من يمثلها.
كما أن اختيار هذه المهنة يتمّ أحياناً باعتبار العطل المدرسيّة، التي تتخلل السنة، والتي يتمتع بها المتعلمون، والمدرّسة ستكون في يوم من الأيام أمّاً، وهي ترغب في أن تكون راحتها حين يرتاح أبناؤها؛ لتتمكّن من تدبير أمورهم في المنزل، وإذا كانت غير مدرّسة، فإنها ستضطر إلى أخذ إجازة لن تغطي لها كل أيام العطل، لذلك تجدها تبحث عن مكان تترك فيه أطفالها، وهذا ما يتوافر في الدول المتقدمة، ولكنه لا يتوافر في الدول الأقل تقدّماً.
إن مساهمة المرأة في صياغة المشهد التعليمي في أغلب بلدان العالم مساهمة عميقة وفعالة، وتشجيع المجتمع لها على ذلك هو أمر محمود، ويوفر للمرأة حظاً في شغل يضمن كرامتها ويحقق ذاتها، ولكنه يخفي في طياته بُنى ذهنيّة اجتماعيّة ذكورية لا يمكن أن نغفل عنها، تعمل على الحدّ من تدخل المرأة في المواقع القياديّة وصناعة القرارات السياسية؛ وذلك بجعلها تستبطن فكرة أنّ وظيفة التدريس هي التي تليق بها، وأنها تحميها ممّا يوجد في المؤسّسات الإداريّة من استغلال ذكوري.
ويبقى التساؤل عن تزايد وجود المرأة في وظيفة التعليم قائماً، فهل هو فعلاً اختيارها الشخصي؟ هل هو نتيجة الضغوط الاجتماعية التي تنبع من دور المرأة في الأسرة والمجتمع على مدى التاريخ؟ هل هو حصيلة توجيهات أسرية لحماية البنات من ضغوطات الإدارة بكل أصنافها؟ هل هو توجّه اجتماعي غارق في المنطق الذكوري الذي يسند إلى المرأة تربية الأطفال ولا يراها إلا في ذلك حتى خارج البيت؟