تُعرّف القراءة بأنها التجول في عقول الآخرين، لكن القارئ المنتظم يعلم أنها تساعده على اكتشاف ذاته أيضاً في كل مرة يحمل فيها كتاباً، فترده إلى نفسه وتجعله يتجول في حدائقه ويغوص في سراديبه ليدرك أوجه الجمال المتعددة فيه، ومَن لا يدرك جماله لا يرى في الآخرين أي جمال، يقول باولو كويلو: "كلّما أدركت سرّ نفسك فهمت العالم من حولك".
وعلى الرغم من أن قيام الفرد بالقراءة هو فعل فردي، فإن آثاره تمتد من الفرد لمجتمعه، فتوسّع القراءة مدارك الأفراد، وتقدم لهم سبل الانفتاح الواعي على الآخرين، وعندما يُقال إن "علم الجمال" هو علم التعرّف إلى الأشياء من خلال الحواس، نعلم جيداً أن القراءة هي أوسع أبواب هذا العلم الرائع، وعصاه السحرية التي حملتنا إلى الوديان البعيدة، وأخذتنا إلى حقب التاريخ المختلفة، لذا تقول ريم بسيوني: "من يتأمل الأوراق يجد بين السطور غايته، ومن يقرأ بلا فهم ولا شوق فلا أمل في نجاته".
فعندما بدأنا في صالون الملتقى الأدبي القراءة، قبل ربع قرن، وركزنا اهتمامنا على الأدب، كانت الرواية سيدة الصالون بلا منازع، كنا نعلم أن الأدب سيفتح بساتينه الغنّاء لنا... لكن ما حدث كان أوسع وأكبر، فقد نقلتنا القراءة من عمق الفرد إلى عمق الجماعة، وبدلاً من استمتاعنا فقط بجمال البيان وسحر اللغة وبلاغة الكلمات، صرنا مرهفين، ندرك الجمال في أنفسنا وفي لقاءاتنا ومطالعاتنا، ولا أبالغ إن قلت في كل ما حولنا، فأصبحنا نهتم بمختلف أشكال الإبداع كاللوحات الفنية والقصائد والموسيقى، وصدق ميلان كونديرا حين قال: "الروايات تمنحنا فرصة للهروب الخيالي، وتقتلعنا من حياة لم تكن تمنحنا أي إحساس بالرضا".
ولأن علم الجمال يعرف أيضاَ باسم "فلسفة الفن"، فقد قادنا شغفنا بالكتب والأدب والروايات إلى إطلاق مبادرات فنية متعددة تبدو في ظاهرها مختلفة عن فعل القراءة، ولكنها في حقيقتها ليست إلا تجليات جمالية له، وأقصد على وجه التحديد مبادرتنا لتلوين الرواية وعرض الأزياء الذي نظمناه، وحمل اسم "حياكة الرواية"، فضلاً عن اهتمامنا في اجتماعاتنا المتوالية بتنسيق المائدة وإعداد الأطعمة المناسبة لكل كتاب نناقشه.
أدعوكم جميعاً لتشريع نوافذكم صوب القراءة لإدراك الأوجه المختلفة الظاهرة والباطنة للجمال التي توجد حولنا.