تتغير اللهجات المحكية «العامية» بتغير الزمن وتتأثر مفرداتها بعدة عوامل تتعلق بتطور الحياة والتعليم والمستوى الثقافي للمجتمع والانفتاح على الثقافات الأخرى. وفي كل حقبة زمنية تشتهر مجموعة من المصطلحات والمفردات التي تشيع على ألسنة الناس ثم لا تلبث أن تندثر بمرور الزمن وتغير الأجيال وظروف الحياة.
ولا أتمكن من وصف شدة إعجابي وتعلقي بمفردات لهجتنا المحلية التي دَرَجَت على ألسنة أجدادنا وأوشكت حالياً على الاندثار أو اندثرت بالفعل، وما يثير الإعجاب ويلفت النظر أن أغلب هذه المفردات العامية لها أصل فصيح في اللغة العربية! ولا عجب في ذلك إذا عُرف السبب؛ فقائلوها هم أبناء شبه الجزيرة العربية، وهي الموطن الأصلي للغة العربية، وخاصةً أبناء قلب الجزيرة العربية الذين كانوا أقل العرب تأثراً بالعوامل والمؤثرات الخارجية، فحافظوا على أصالة اللغة ومفرداتها.
ومن المفردات المميزة التي تميّز بها جيل الأجداد ومن سبقهم: «يا هُمَّلالي»؛ وهي كما ذكرها الشيخ محمد العبودي في كتابه «معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة» أنها لفظ يقال في استبعاد الشيء، ويطلق على البعيد: بعد مكان أو بعد زمان، وتقال في تذكر الشيء قديم العهد والتحسر على شيء فات، كأن تقولها المرأة أو الرجل من كبار السن في تذكر أيام الشباب البعيدة والتي لا يمكن عودتها.
وأصلها في اللغة العربية: يا هيءَ مالي أو يا هيَّ مالي، وهو كلام يقال للتحسر على شيء فات.
ووردت في الشعر الشعبي، فذكرها الشاعر عبدالرحمن البواردي «توفي عام 1361هـ»:
لو يباهي بخدّه للقمر
غاب نور القمر يا هُمَّلالي
وذكرها الشاعر جديع بن قبلان مخاطباً نمر بن عدوان:
يا نمر كل اللي عليها مولّي
متروّحة يا هيه يا همّلالي
أي أن كل ما على الأرض فهو زائل ومنقضي ومردّه إلى الآخرة.
وكثيرة جداً هي المفردات العامية ذات الأصول الفصيحة في لهجتنا، ولا يتسع المجال لذكرها بالطبع إلا أنني أجد أن بعض التسميات العامية لأقسام البيت في منطقة نجد قديماً - والتي لها أصول فصيحة في اللغة العربية - تستحق الإشارة إليها، كـ «الصّفّة» التي تعني الغرفة في المنزل، وقد ورد ذكر أهل «الصّفّة» في أحد الأحاديث النبوية، وهي حجرة في المسجد النبوي أنزل الرسول عليه الصلاة والسلام فقراء المهاجرين فيها. وكذلك «الطاية» بمعنى السطح، و«المُوقَد» وهو المطبخ لأن إيقاد النار وإشعالها كانت الوسيلة المتاحة للطبخ، و«الفِرْجَة» هي النافذة في الجدار، و«الغَمَى» وهو السقف.
وعندما ندرك جمال وفصاحة مفردات لهجاتنا العامية، فلا بد أن نعي بأهمية المحافظة عليها - قدر الاستطاعة - ونقلها للأجيال الحديثة فهي بلا شك جزء من تراثنا وهويتنا الوطنية، والمحافظة عليها لا يتنافى مع التطور والتقدم في حياتنا المعاصرة.