«أنت عالمة.. أنت عبقرية.. أنت متفوقة»
للمرَّة الأولى، أكتبُ مقالاً عن والدي منذ رحيلِه عن هذه الدنيا عامَ 2021، ولم أنسَ أبداً، وأنا أسطِّره، أنه كان يحبُّ الكتبَ كثيراً، فعلى الرغمِ من تعبِه إلا أنني كنتُ أقضي معه ساعاتٍ طويلةً في قراءةِ كتابٍ، أو التحدُّثِ حول التاريخِ.
كان والدي، رحمه الله، حافظاً للقرآنِ الكريمِ، لذا كنتُ أحبُّ الجلوسَ إلى جانبه، وقراءةَ القرآنِ حتى يُصحِّحَ لي إذا ما لزِمَ الأمرُ، وما زلتُ إلى اليومِ، أفتخرُ، وأندهشُ من قدرتِه على حفظِ القرآنِ بأكمله! كان يبتسمُ، ويقولُ لي: إنني أستطيعُ فعلَ ذلك إذا فهمتُه، وبحثتُ عن تفسيرِ الآياتِ. ولعلِّي من هنا عشقتُ اللغةَ العربيَّة، وبلاغةَ القرآنِ الكريمِ.
كان والدي، رحمه الله، يعشقُ الكتبَ كلّها، خاصَّةً الكتبَ التاريخيَّةَ، وكتبَ السيرةِ الذاتيَّةِ لحكَّامِ العربِ. لقد كانت الكتبُ بالنسبةِ إليه بمنزلةِ مقتنياتٍ ثمينةٍ جداً، وقريبةً إلى قلبِه، وعليه لم أكن أحتاجُ إلى التفكيرِ حتَّى في الهديَّةِ المثاليَّةِ التي سأقدِّمها لأبي، فلطالما أسعدته الكتبُ.
علاوةً على ذلك، كان والدي من محبِّي الشعرِ النمطي كثيراً، ولا يملُّ من سماعِه، أو قراءتِه.
ومن الأمورِ الجميلةِ التي تعلَّمتها من والدي حمدُ اللهِ على كلِّ شيءٍ. لم يكن، يرحمُه الله، يشكو أبداً، وما زلتُ أتذكَّرُ ابتسامتَه الدافئةَ، إذ كان يحبُّ أن يبتسمَ كثيراً في وجوه الناسِ حتَّى في أيامِه الأخيرةِ، وعلى الرغمِ من تعبِه.
وأنا أكتبُ هذا المقال، وأسترجعُ ذكرياتي مع والدي، أيقنتُ تماماً أن مقولةَ: "فاقدُ الشيءِ لا يُعطيه" خاطئةٌ كلَّ الخطأ! نعم، هناك مَن يُعطي ما افتقدَه. لقد تيتَّمَ والدي قبل أن يأتي إلى هذه الدنيا، ولم يرَ أباه، لكنَّ الله عوَّضه بأمٍّ حنونٍ، حدَّثته كثيراً عن شخصيَّةِ والده عندما كان حاكماً في زمنِ الاستعمارِ البريطاني للمنطقةِ. كان والدي يصفُ لنا أباه، وكأنَّه يراه أمامَه! وعلى الرغمِ من أنه لم يَعِش تحت كنفِه إلا أنه كان مثلَه الأعلى في تربيتنا.
لو عشتُ ألفَ عامٍ، لن أتمنَّى والداً غير والدي. أبي كان بالنسبةِ لي رزقاً، وبه عرفتُ معنى "رحمةِ الله"، إذ رزقني ربِّي والداً طيباً نقياً، كان ينتقي كلَّ كلمةٍ قبل أن يقولَها لي.
لا يُمكنني إطلاقاً نسيانُ اللحظاتِ التي قضيتُها مع والدي في قراءةِ الكتبِ المفيدةِ، ومناقشةِ مختلفِ الموضوعاتِ الثقافيَّةِ، ولطالما شجَّعني، رحمه الله، على الاستمرارِ في التعلُّمِ، واكتسابِ المعرفةِ، كما كان يثيرُ فضولي لاستكشافِ عوالمَ جديدةٍ، وبفضلِ تشجيعِه وإرشادِه، كبرتُ لأصبحَ شخصاً مثقَّفاً، يُقدِّرُ العلمَ والتعليمَ.
كثيراً ما يسألونني عن نصيحةٍ للآباءِ والأمَّهاتِ في تربيةِ أبنائهم، فأتذكَّرُ والدي وكلماتِه العميقةَ التي كان دائماً ما يُردِّدُها على مسامعي: "أنتِ عالمةٌ، أنتِ عبقريَّةٌ، أنتِ متفوِّقةٌ". كان يُثني عليَّ وعلى إخوتي كثيراً، وهذه الكلماتُ التشجيعيَّةُ، كانت ذات تأثيرٍ قوي في نفوسنا، إذ ترسَّخت في أذهاننا، وصارت معياراً في حياتنا.
مهما كان الطفلُ شقياً، يمكنُ لتلك الكلماتِ أن تُصحِّحَ شخصيَّته، ليصلَ إلى مرحلةِ النضوجِ، لذا لنستبدل الكلماتِ السلبيَّةَ بعباراتٍ، تسودُها المحبَّةُ، وتُشجِّعهم على تغييرِ سلوكِهم. وبالتأكيدِ، يتوجَّبُ علينا تطبيقُ ما نريدُ أن نراه في أولادنا على أنفسنا بدايةً، مثلاً إذا أردتم طفلاً قارئاً فعليكم بقراءةِ الكتبِ في حضورِه ليتعلَّم منكم، فأنتم في النهايةِ قدوته في هذه الحياةِ.
وفي الختامِ، يُسعدني كثيراً التحوُّلُ اليومَ من نمطِ كتابةٍ لآخرَ، فدائماً ما أكتبُ بشغفٍ، أو بخيالٍ، لكنني هنا وللمرَّة الأولى أكتبُ بحبٍّ، كيف لا وأنا أتحدَّثُ عن والدي، فعندما أذكره، رحمه الله، تحوطُني كلُّ معاني الحبِّ، وكأنَّه لم يتركني أبداً .