منذ سنوات بعيدة، انتقلت صديقة جدتي إلى بيتها الجديد.. هكذا ظننتُ حين رأيتها تودع جدتي وجاراتها والمدينة التي عاشت فيها أجمل سنواتها باكية، ثم ترحل تاركة خلفها ذلك المنزل الذي لم تُغلَق أبوابه ولم يغادره ساكنوه، ولم تُطفأ مصابيحه ليلًا، كما كان يحدث في منازل الجيران القديمة؛ حين يغادرها أهلها لمساكنهم الجديدة..
فكل تفاصيل بيتها استمرت كما هي، لم يتغير شيء، سوى أن امرأة مسنة خرجت منه بكامل ضعفها وحزنها، لتسكن ذلك المنزل البعيد الذي تقاسمها السكن فيه الكثير من النساء..
كان ذلك المنزل بالنسبة لي هو منزل الجدات الطيبات، هكذا كنت أراه حين كانت جدتي تصطحبني معها لزيارة صديقتها، فكل النساء به شبيهات بجدتي، وقلوبهن طيبة كقلب جدتي، وألسنتهن كانت لا تجيد سوى الأحاديث الطيبة، والحكايات الجميلة.
لذا كان المكان يمثل لي زاوية دافئة من زوايا الأرض، لولا برودة جدرانه، ففي ذلك المكان اكتشفت نوعًا آخر من الجدران، تختلف عن تلك الجدران التي كنت أرسم عليها بالطباشير الملونة التي كنت أخفيها في حقيبتي المدرسية، فالجدران في هذا المكان كانت باردة، باردة جدًا.. فكنتُ أُغافل جدتي وهي تتحدث مع جارتها، وأضع إصبعي على جدران الغرفة، وأرسم به عصفورًا وشجرة، فتتسلل برودة الجدران إلى جسدي الصغير، فالجدران باردة كأسوار مدينة لا تمرها الشمس، باردة كأمنيات سقطت من عشاق عجزوا عن تحقيقها، باردة كأنامل تلك البائعة الصغيرة التي كانت تبيع أعواد الثقاب في ليلة ماطرة، ثم تجمدت بعد انطفاء آخر الثقاب لديها..
فكنت بعد كل زيارة، أكرر السؤال على جدتي: لماذا الجدران باردة يا جدتي؟ لتكرر عليَّ الإجابة ذاتها: «الجدران ليست باردة يا ابنتي، قلوب أبناء العقوق هي الباردة»، فتعرفت في تلك المرحلة من العمر على مصطلحات جديدة لم أكن أعي معناها كـ(القلوب الباردة) و(أبناء العقوق).
وكبرت وأنا أخاف أن أكبر للدرجة التي أسكن فيها (منزل الجدات)، فذلك المكان تحوّل في داخلي مع الوقت إلى (حالة خوف)، وأصبحت أتذكر برودة جدرانه برعب.. لكن ذاكرتي سجلت تلك المعلومة التي لم أتخلص منها أبدًا؛ وهي أن قلوب أبناء النساء المسنات في ذلك المنزل الكبير باردة جدًا.
قبل النهاية بقليل:
الجدران الباردة، هي جدران منسية هجرها الحب والوفاء، وتخللها برد الخذلان بعمق.