في كل حوار أو مناقشة أو مناسبة عن الصداقة، أتفقد أوراقي بحثاً عن صداقة تستحق الاحتفاء بها، وعن صديقة أترك على عتبة بابها باقة ورد ندية، وبطاقة كُتب عليها «شكراً؛ لأنك صديقتي»، لأكتشف أنه ليس لديَّ صداقات جميلة يمكن أن تُصنف بـ«صداقة حقيقية»!
فمنذ زمن لم أتسوق برفقة صديقة حقيقية، ومنذ زمن لم أحتسِ قهوتي بصحبة صديقة قريبة، ومر وقت طويل على آخر مرة ثرثرتُ فيها بثقة في حضرة صديقة يمكن أن أطلق عليها صديقة حقيقية!
فكيف تسلل الزيف إلى الكثير من علاقاتنا حتى أمسى أغلبنا لا يملك أصدقاء حقيقيين؟! إلا أولئك الذين ما زالوا يحتفظون بتلك العلاقات القديمة التي كبرت معهم، وتطورت مع الوقت لتصبح علاقة دافئة تستحق أن يطلق عليها صداقة عمر.
ففي زمن السرعة أصبح من الصعب تكوين صداقات طويلة الأمد؛ لذا أغلب العلاقات تُعقد لأسباب ما، ثم تنتهي بانتهاء أسبابها.
فبينما نحن نجري في زمن سريع المرور ومرعب الدوران، لم نُمنح مهلة كافية للتوقف، ولانتقاء الأصدقاء بشكل جيد؛ فأصبحت أغلب العلاقات باردة مؤقتة، تبدأ سريعاً، وتنتهي سريعاً، فلم تعد أوقاتنا تتسع للوجود في تلك المواقف التي تمنحنا مجموعة من البشر بصفة «أصدقاء»؛ لذا كانت الحياة في الماضي أصدق في تقديم الأصدقاء إلينا، فكنا نتعرف إليهم بوصفهم حالة اكتشاف لشيء جميل وذي أهمية كبري، ثم تنسج السنوات الطويلة بيننا وبينهم الكثير من المواقف التي تتحول مع مرور الوقت إلى «عشرة عمر»؛ فالأصدقاء لا يُقَدَّمون إلينا على طبق من ذهب، والصداقة أعمق من تلك الهوايات المشتابهة، ومن تلك الألعاب المشتركة، ومن تلك النزهات التي نلهو ونفرح ونتنفس فيها بصحبة أحدهم؛ فالصداقة الحقيقية هي إحساس أبيض يشعرك بالأمان، وأن هناك في مكان ما يحتفظ لك أحدهم بأجنحة أخرى؛ لذا أنت تُحلق بأمان متحدياً لحظة السقوط، وأن هناك شخصاً يملك النسخة الأصلية منك؛ فلا تضطر للتلون أو للتجمل أمامه، فتكون معه كأنك بصحبة نفسك، وأن هناك شخصاً يحتفظ لك بزاد الطريق؛ فلا ترتعب حين تفكر أن زادك قد ينفد على طريق الحياة وتموت جوعاً، وأن هناك من يقف فوق شاطئ حياتك يراقبك بحرص بينما أنت تسبح في بحور الحياة؛ ليتحول عند غرقك إلى طوق نجاة منقذ، وأن هناك من يوجعك؛ كي ينتشلك من وجع أكبر، ويؤلمك؛ كي يحميك من مراحل ألم قد تستعمر مراحل عمرك
قبل النهاية بقليل:
الصداقة الحقيقية هي نعمة تستحق الحمد، ورزق يُوجِب الشكر.