كانت جميلة رغم وهن العمر، ناعمة رغم جفاف العاطفة، لحضورها هيبة لاتخفى، ولغيابها فراغ يستشعر بسهولة، فهي كانت أنثى السكر، تلك المرأة التي كانت تسرد حكايتها مع قطع السكر في كل مجالس النساء، فكلما أمسكت بيدها قطعة سكر ابتسمت، وأخذت تكرر السرد على الجالسات بقربها:
«كنت فتاة السكر، هكذا كان يطلق عليّ أحبتي حين كنت أتناول مكعبات السكر بنهم مثير للدهشة، ذلك النهم الذي شيد في داخلي مدينة من السكر، تلك المدينة التي كلما مرت الأيام اتسعت مساحاتها حتى وجدتني مضطرة للحد من اتساعها بي، فما عدت أحتفظ بتلك المكعبات البيضاء في حقيبة يدي، ولا أتابع ذوبانها في فنجان قهوتي المحلاة كما كنتُ بمتعة.
وأصبحت في كل مرحلة من عمري أتنازل عن مجموعة من مكعباتي المفضلة، فكان العدد يتناقص يوماً بعد يوم، وكانت المرارة تزداد كلما قلت القطع البيضاء، إلى أن تأقلمت مع حياة بلا سكر، وبلا أحباب ينادونني بـ( فتاة السكر)..
وتحولت مع الوقت إلى (أنثى الوحدة)..
فبدأت أتراجع عن الجميع وأتسلل إلى جسدي، كأنني أمارس الهروب إلى نفسي، وربما نجحت في هذا، فأنا وجدتني فجأة في منطقة معتمة من العمر، تلك المنطقة التي لا نرى بها الألوان مهما تعددت فيها اللوحات والتفاصيل..
إنها المنطقة التي لا نهتم فيها بالكثير، ولا نشعر بالقلق لتلك الأحداث التي تدور خارج دائرتنا التي دخلنا إليها، وأدخلنا معنا كل من يهمنا أمرهم ثم أغلقناها علينا، وأصبحت هي أرضنا الحقيقية وكوكبنا الحقيقي...
بدأت أصاب بالنسيان، فأصبحت أنسى لدرجة التردد في تناول أدويتي خشية أن أكرر تناولها، أنسى لدرجة تفقد مقبض الباب عدة مرات للتأكد من إغلاقه، وبدأت التفاصيل تتساقط مني، فما عدت أتذكر المواقف بذلك الوضوح الذي قد يجعلني أغضب من أحدهم أو أصاب بالخيبة حين يعترض الخذلان طريقي.
بدأ الناس يتسربون من قلبي، فما عدت أهتز لرحيل الكثير منهم، وما عدت أفتقد وجودهم في المناسبات الاجتماعية التي كنت أحضرها على فترات متباعدة.
أصبحت أجامل، وأبتسم، وأرحب بلا حدود، وكأنني تحولت إلى بائعة كلمات (معلبة باردة)..
لكن هذا يحدث فقط مع الوجوه التي أراها أمامي، أما تلك التي تغيب عن عيني فأنا لا أهتم لأمرها، ويدهشني حين يخبروني أن أحدهم كان في حالة غياب طويل، دون أن أشعر بوجود ذلك الفراغ خلفه.»
قبل النهاية بقليل:
خذلها السكر، فرحلت مصابة به، فالكثير من الأشياء التي نحبها قد تكون السبب الأول في غيابنا.