هل نقطع شعرة الجنون أحياناً وننغمس في أفكار مجنونة دون أن ندرك ذلك؟ أم أن الجنون هو اختيارنا الأمثل والمتعمد في الكثير من الحالات؟
فكلما التقيتُ بها وجدتها تسرد عليَّ الحكاية المجنونة ذاتها، وتطوقني باستفسارات لا إجابات لها:
هل أنا أنثى قادمة من عالم الجنون؟ أم أنني أنثى مصابة بفقدان الذاكرة الحديثة، لذا أثرثر عليهم بالكثير من التفاصيل القديمة، والتي تدفعهم للإنصات إلى حديثي بصمت، والدهشة منه بصمت، والتفكير فيه بصمت، ويمنعهم رقيهم من قذفي بالجنون؟
فأنا ما زلت أسافر كل ليلة إلى تلك المدن البعيدة والتي يخيل إليَّ أني عشتُ فيها ذات زمن لا أذكر من ملامحه ولا من مشاعره سوى الحنين.
فأتجول في تلك الطرقات، وأطرق أبواب تلك المنازل التي أحفظ ملامح وأسماء سكانها، فأدخل إليها كالداخل إلى مدينة أحلامه، وأتجول في الأمكنة بأريحية كأنني أحفظ تضاريس المكان بدقة، وأبحث في زواياها عن شيء ما كأنني خبأتُ في الزوايا لعبتي القطنية، وقطع الخشب التي جمعتها من الطرقات ذات طفولة، ومجموعة القواقع التي جلبتها من شاطئ البحر القريب من منزلي، وأقف أمام قطعة الزجاج المتبقية من تلك المرآة المعلقة فوق جدار الطين المتهالك، وأحدق في وجهي طويلاً، فتبدو لي ملامحي مختلفة كثيراً، كأنني أنظر إلى وجه فتاة أراها للمرة الأولى.
لكن ورغم اختلاف الملامح أشعر بالألفة تجاه هذا الوجه الغريب عني، ويُخيل إليَّ أني عشت به سنوات طويلة في مكان ما، ثم لسبب لا أذكره تخليت عنه واستبدلته بآخر، رغم إيماني أننا لا نغير رؤوسنا ولا وجوهنا، لكني واثقة أن هذا الوجه الغريب كان يوماً وجهي، وهذا الاسم المختلف كان يوماً اسمي، وهذا المنزل المتهالك كان يوماً منزلي، وهذا الصياد الطيب كان يوماً أبي، وتلك المرأة القاسية كانت زوجة أبي، لم تمنعني من حضور حفلة الأمير، لكنها أغلقت عليَّ ذلك الصندوق الخشبي، وزرعتني في عمق العتمة، وألقت بي إلى قاع البحر، لينتهي دوري في ذلك الزمن البعيد، ويبدأ دوري في هذا الزمن، بوجه آخر، واسم آخر، ومنزل آخر وعائلة أخرى، وروح قديمة، تلك الروح التي تدفعني في كل ليلة للسفر إلى ذلك المكان البعيد جداً، حيث كانت الأشياء بدائية، بدائية لدرجة الاحتفاظ ببقايا مرآة مكسورة على جدار وهن.
قبل النهاية بقليل:
الكثير منا قد يتخطى عند الألم تلك المسافة الفاصلة بين العقل والجنون دون أن يشعر بذلك، لكننا على الأغلب حين تخفت شدة الألم... نعود!