كم تبدو لنا الأشياء مختلفة حين نبتعد عنها، وكم تبدو التفاصيل غريبة علينا حين نعود بعد زمن إليها، فالآن وأنا أقرأ رسائلي القديمة إليك، يخيل إليّ أنني أتعرف على امرأة أخرى ليست أنا، كأنني أبحر في شخصية امرأة لا أعرفها، وأقرأ حكاية لم أكتبها، ومشاعر لم تكن يوماً مشاعري، وأمنيات غريبة لم ترافق روحي ذات حكاية.
أيعقل أن تغيرنا الأيام إلى هذا الحد؟
أيعقل أن نتحول مع الوقت إلى شخصيات أخرى، ونُسخ لا تمت إلى نسخنا القديمة بصلة؟
فهنا بين أوراق الرسائل أنثى لا تشبهني، امرأة لا تحب الألوان التي أحبها ولا تمارس الهوايات التي أمارسها، ولا تقرأ الكتب التي أقرؤها، ولا تفضل الأطعمة التي أفضلها، ولا تعشق المدن التي أعشقها.
هنا مجموعة من الرسائل كتبتها يوماً حين كنت أنت نصف قلبي الآخر على الأرض، وحين كانت تلك الحكاية هي وطني المشترك معك..
ففي هذه الرسائل كتبتُ عن أغنياتي التي أحبها، ووصفت لك حجم فرحتي وأنا أقتني كتاب كاتبي المفضل، وكتبتُ لك عن أحزاني التي كانت كتلة من أسرار لا أبعثرها إلا أمامك، وكتبتُ لك عن حماقات صديقاتي التي كانت تثير غضبي، وعن تلك المرأة التي أكره نظراتها إليك وثرثرتها معك، وعن تلك الليلة الباردة التي أقلقني فيها غيابك، وعن تلك المناسبة الحزينة التي افتقدت فيها وجودك بجانبي..
كتبت لك في رسائلي عن حزني لزواج صديقتي بغير فارسها، وعن انزعاجي من ثرثرة جارتي بصوتها المرتفع خلف جدران غرفتي وأنا نائمة، كتبت لك عن قلقي لكثرة أدوية جدتي ورعبي من أن تغادر الأرض كلما أصيبت بالحمى، كتبت لك عن استعداداتي لزفاف شقيقتي الكبرى، وعن لون فستاني في عيد ميلادي العشرين..
كتبت لك عن سفراتي في إجازات الصيف، وعن حزن الابتعاد عنك، وقلق الشوق إليك، والخوف من انتصار النسيان حين أغيب عن عينيك..
كتبت لك عن رغبتي في أن نكبر معاً، ونمارس الرياضة معاً، ونزور عيادات كبار السن معاً.
كتبت لك عن رجال وهميين، وفرسان ليس لهم في حياتي وجود، ومواقف مفتعلة، وأخرى مزخرفة؛ كي أثير بها غيرتك..
كتبت لك عن الكثير الذي ماعدتُ أتذكر أكثره، ووجدت بين أوراق الرسائل القديمة مجموعة من النساء، وجدت امرأة عاشقة، وامرأة غيورة، وامرأة غاضبة وامرأة ساذجة، وامرأة حالمة، وامرأة أليفة وامرأة عنيدة، وامرأة متمردة.. لكني لم أجد نفسي بينهن.
قبل النهاية بقليل:
كأنها ليست أنا، وكأن الزمن يعيد (بعد حين) ترتيب قطعنا المبعثرة!..