تخرّج في هذه الجامعة، وعلى امتداد ثلاثة عشر قرنًا، آلاف الفقهاء والأدباء والقضاة والمعلمين. وكان لجامع الزيتونة طيلة فترة الانتداب الفرنسي، والتي امتدت إلى ثلاثة أرباع القرن (من 1881م إلى 1956م)، دور مهم في المحافظة على الهوية العربية والإسلامية للبلاد التونسية، أمام محاولات الطمس والتغريب. ونشأت للجامعة الزيتونية فروع داخل البلاد يتلقى فيها التلاميذ المراحل الأولى من التعليم، قبل التحاقهم بحلقات الدرس في الجامع الأعظم بتونس العاصمة.
أسلوب تقليدي
أسلوب التدريس في جامع الزيتونة، بشهادة بعض المتخرجين فيه، يوصف بأنه أسلوب تقليدي، والمناهج غير متطورة، تعتمد الحفظ، وأكثر الدروس كانت في الفقه، والتفسير، وعلوم الشريعة، وأصول الدين، وبعض المبادئ العامة في اللغة والنحو، وكانت حلقات الدروس تلتئم حول الأئمة والمشايخ مع توافر أنظمة للامتحانات والشهادات كـ«الأهليّة»، و«التحصيل»، وكان الطلبة يقبلون على الدراسة بجامع الزيتونة من كافة أنحاء البلاد التونسية، ومن الجزائر أيضًا، ومن بعض دول أفريقيا.
وأشارت دراسة جامعية، إلى أن التعليم الديني بجامع الزيتونة كان تعليمًا تقليديًا، إلا أن المتخرجين فيه لم يكونوا من المتشددين، وإنما يصح القول إنهم كانوا من المحافظين، بل إن بعضهم كان من العلماء المصلحين، والأدباء، والكتاب المجددين. فالشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، على سبيل المثال، درس بالكتاتيب، ثم أدخله والده، الذي كان قاضيًا، إلى جامع الزيتونة، ولكن الشاعر الشاب لم يكن منسجمًا مع نوعية التعليم فيه، ولم تكن علاقته دائمًا طيبة بالمشايخ، مثلما يظهر ذلك في مذكراته. كما تخرج في جامع الزيتونة المصلح الطاهر الحداد، الذي زامن الشابي، وألف كتاب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» الذي دعا فيه إلى منح المرأة حقوقها كاملة، وتحريرها من الظلم، والعادات البالية، وأثار الكتاب ضجة، ورأى فيه بعض مشايخ الزيتونة –وقتها- مخالفة لعلوم الشرع.
كما ساهم جامع الزيتونة، وفق الدراسة، في بروز بعض الرواد والزعماء في حركة التحرير الوطنية بتونس والجزائر، من أمثال المصلح والزعيم عبد العزيز الثعالبي، الذي أسس الحزب الدستوري التونسي. كما درس الرئيس الجزائري الراحل الهواري بومدين بجامع الزيتونة.
تنافس بين مشروعين
وقد ظهر تنافس بين خريجي جامع الزيتونة وخريجي المدرسة الصادقية، التي أنشئت عام 1875م، سرعان ما تحول إلى صراع بين مشروعين اثنين، الأول محافظ وتقليدي، والثاني تحديثي وعلماني. فالمدرسة الصادقيّة (نسبة إلى الصادق باي ملك تونس) أنشأها المصلح خير الدين باشا لتدريس العلوم الحديثة باللغتين العربية والفرنسية. وقد جاء في إعلان تأسيسها: «إن الهدف منها تدريس القرآن، والكتابة، والمعارف المفيدة، واللغات الأجنبية، والعلوم العقلانية، التي قد يستفيد منها المسلمون، شريطة ألا تكون مناقضة للعقيدة».
وكانت المواد الدينية تدرس بالمدرسة الصادقيّة، ولكن ضمن برنامج عام يضم العلوم الحديثة، واللغات الأجنبية، على خلاف التعليم في جامع الزيتونة، الذي كان جله منحصرًا في العلوم الدينية.
وظهرت في تونس، بسبب اختلاف المناهج بين التعليم في جامع الزيتونة والمدرسة الصادقيّة، نخب مختلفة في رؤاها، وأساليب عملها، ومناهج تفكيرها، وانعكس ذلك على الشأن السياسي، وحركة التحرير الوطني، إذ انشق المتخرجون في المدرسة الصادقيّة، ومن بينهم الزعيم الشاب الحبيب بورقيبة، وثلة من رفاقه عام 1934م عن الحزب الدستوري التونسي، بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالبي (وهو زيتوني)، وأسسوا «الحزب الحرالدستوري التونسي الجديد».
نظام تعليم موحد
واستمر هذا الاختلاف بين «الزيتونيين» و«الصادقيين» طيلة فترة الحركة الوطنية. وبعد فترة قصيرة من استقلال تونس تم إلغاء التعليم الديني بجامع الزيتونة، وتحويل الزيتونة كمؤسسة تعليمية إلى كلية للشريعة وأصول الدين. وتم بعث نظام تعليم موحد منفتح على علوم العصر، ووقع العدول نهائيًا عن المدارس الدينية، وأصبحت كل المؤسسات التعليمية خاضعة لسلطة الدولة. كما تم تعميم تجربة «المدرسة الصادقيّة» بالنسبة للمرحلة الثانوية باعتبارها نموذجًا ناجحًا للتعليم العصري، وأصبح الدين يدرّس ضمن المواد الأخرى في التعليم الابتدائي، كما تخصص بعض الأساتذة المتخرجين في كلية الشريعة في تدريس مادة «التربية الدينية والمدنية» ضمن مناهج التعليم الثانوي.
وعمل المسؤولون على إصلاح التعليم في تلك الفترة لتكون مادة التربية الدينية عنصرًا لربط التلميذ بهويته العربية والإسلامية، كما عملوا على أن تكون مادة التربية المدنية رافدًا من روافد غرس المفاهيم الحديثة في تكوين التلميذ، وعملت تجربة التعليم الحديث في تونس على إدماج التلميذ في واقعه الوطني، وكذلك وفي ذات الوقت في الحضارة العصرية.
والحقيقة أن خريجي جامع الزيتونة كان ينظر إليهم في السنوات الأولى على الاستقلال نظرة دونية؛ باعتبار أنهم من ذوي اللسان الواحد، إذ إنهم لا يجيدون إلا اللغة العربية فقط.
النهوض مجددًا
ولا شك أن اليوم في تونس الجديدة استردت الجامعة الزيتونية حيويتها، واستأنفت دورها في نشر المعرفة الدينية، وتم وضع تصور لتدريس علوم الدين، عماده الاستناد إلى خير ما في التراث، والانفتاح على مقتضيات العصر. والقصد من ذلك الظفر بجامعة قادرة على استلهام المقاصد الحكيمة للإسلام، والإضافة لمكتسبات العقل الإنساني بروح من التسامح، الذي ما انفك يميز الإسلام الحق، ويدحض التطرف والتعصب. والجامعة الزيتونية تؤمّن تكوينًا لمرتاديها يؤهلهم لاكتشاف ما في قيم الإسلام من أسباب الارتقاء بالذات البشرية إلى مصاف الشخصية الحرة المسؤولة، المقتدرة على الجمع بين الوفاء لنبل مقاصد الدين، وضرورة الاستجابة السليمة لمقتضيات الحياة.
ويرى القائمون على مناهج التدريس بالجامعة الزيتونية، اليوم، أن الطريقة المتبعة تمكن الطالب من أن يكون منفتحًا على عصره وعلى الآخرين، مسلطًا عقله فيما يمكن إخضاعه للعقل من أمور الفكر الديني.
ومن أجل ذلك أدرجت في المقررات الدراسية: العلوم الإنسانية والاجتماعية، كما يتم تدريس تاريخ الأديان، والدراسات في الأديان المقارنة، وتاريخ العلوم، إلى جانب العلوم الشرعية، التي تمثل 60 في المئة تقريبًا من المقرر.