يعد ابن خلدون أحد أبرز المفكرين المسلمين، استطاع أن ينتج في مقدمته فكراً سياسياً واجتماعياً يمثل قمة النضج، بالمقارنة بمعاصريه، خاصة ما يتصل بالدولة والمجتمع، حيث تبنى في مقدمته نظرة كلية شاملة لقضايا العمران البشري والاجتماع الإنساني. ومن خلال نظرته تلك، صاغ رؤيته للنظام السياسي بوصفه واحداً من النظم التي تقوم بدور محوري في البنية الاجتماعية، أو فيما أسماه "أحوال العمران البشري على الجملة"، فقد كان محدد الاتجاه واضح الهدف، فهو يريد أن يناقش بنية المجتمع في جملتها من منظور واسع النطاق.
وفي ظل الدعوة لاستعادة ألق القراءة وزخمها، تقدم "سيدتي" ملخص وقراءة أسبوعية في كتاب، وكتاب اليوم يحدثنا عن ابن خلدون ومنجزه الفكري، والذي أثرى الفكر الإنساني بعطائه المتجدد.
اسم الكتاب: "ابن خلدون.. إنجاز فكري متجدد".
تقديم : د. إسماعيل سراج الدين، مدير مكتبة الإسكندرية الأسبق.
• أهم الجوانب في حياة "ابن خلدون"
يحاول كتاب "ابن خلدون.. إنجاز فكري متجدد" إلقاء الضوء على أهم الجوانب في حياة "ابن خلدون"، حيث يتناول الفصل الأول سيرة حياة ابن خلدون، التي تعتمد في تفاصيلها على ترجمة "ابن خلدون" لنفسه وحياته، كما يسعى هذا الفصل للاقتراب من واقع الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية لعصر "ابن خلدون"، الذي كان بلا شك بمثابة الخلفية الثقافية والسياسية والاجتماعية التي أثرت في إبداعه وإنتاجه العلمي، وهي خلفية تتمثل في كتابات معاصريه من الرحالة والمفكرين حيث يؤكد د. إسماعيل سراج الدين أن حياة "أبن خلدون" وكتاباته "لم تكن فقط مجرد تعبير عن تمكنه من أدواته كمؤرخ وعالم استطاع أن يمزج آراؤه الفكرية بخيرته العملية كرجل دولة تنقل بين مختلف أرجاء العالم الإسلامي، وخبر مشكلات ومؤامرات الحكم والإدارة، ولم تكن فقط توثيقًا سعى فيه إلى التزام أكبر درجات الدقة لتاريخ عصره، لكنها كانت إسهامًا علميًا شكل نقلة كيفيةسواء في مجال الكتابة التاريخية بتأسيسه علم "فلسفة التاريخ" او بوضع اللبنة الأولى لـ"لعلم الاجتماع" الذي أطلق عليه العمران البشري".
ومن أبر ز من أثر في ابن خلدون من معاصريه "ابن حجر العسقلاني" المحدث والمؤرخ الكبير، و"تقي الدين المقريزي" المؤرخ العلامة صاحب كتب "إغاثة الغمة بكشف الغمة، السلوك في دول الملوك، والخطط والآثار"، الذي تأثر كثيراً في كتاباته التاريخية بأفكار وآراء "ابن خلدون"، خاصة فيما يتعلق بالتاريخ الاجتماعي، كذلك "أبو المحاسن بن تغرى بردي" المؤرخ المصري صاحب كتاب "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، و"أبو العباس القلقشندي" صاحب كتاب "صبح الأعشى".
• ابن خلدون وتأسيس فلسفة التاريخ
ينقل د. إسماعيل سراج الدين عن ابن خلدون قوله عن فن التاريخ:
"أما بعد، فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتُشد إليها الركائب والرجال، وتسمو إلى معرفته السوقية والإغفال، إذ هو في ظاهره نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الواقع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصل في الحكمة عريق وجديربأن يعد في علومها ....." ابن خلدون المقدمة، صـ285
حيث يؤكد سراج الدين في كتابه أن ابن خلدون نظر إلى التاريخ كعلم يستحق الدرس لا كرواية تروى فقط، حيث يتناول المؤلف في الفصل الثاني إسهام "ابن خلدون" الفكري في تأسيس فلسفة التاريخ"، فقد أراد أن يكتب التاريخ على ضوء منهج جديد من الشرح والتعليل، فانتهى به التأمل والدرس إلي وضع منهج وفلسفة جديدة فى الكتابة التاريخية يقرأ على ضئها التاريخ، وتفهم وقائعه وتحلل أحداثه وظواهره، فلم يكن هاجس التمييز بني الصحيح والخطأ من المعلومات من ابتكار "ابن خلدون"، فهذا الهاجس قديم قدم المعرفة الإنسانية، لكن يذكر لهذا المفكر الفذ سعيه للتمييز بين الأخبار التاريخية المؤمتنة والأخبار التاريخية التى لا يصح لمؤرخ أن يثق بها، ووضعه منهجية هذا التمييز
• علم الاجتماع.. علم العمران البشري
يستعرض سراج الدين إسهام "ابن خلدون" في تأسيس علم جديد كان هو رائده وواضع لبناته الأولى، وهو علم الاجتماع الذي أطلق عليه "علم العمران البشري"، ففي الفصل الرابع من الكتاب، أوضح سراج الدين أن علم الاجتماع هو العلم الذي جعل فيه "ابن خلدون" المجتمع الإنساني، بما فيه من ظواهر، مادة للتأمل والفحص والتحليل، حيث يلخص مادة علم الاجتماع وموضوعه في مقدمته، قائلاً إنها ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية، يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة، وتدفع بها الأوهام والشكوك.
ويسعى الكتاب في الفصل الرابع إلى تناول ما قام به "ابن خلدون" في وضع أسس علم السياسة، وكيف أنه تجاوز سابقيه الذين حصروه فيما يتعلق بصفات وسمات الحاكم أو بعض المراسم والتقاليد السلطانية، حيث تناول ابن خلدون في مقدمته ما يتعلق بالدولة وسلطة الملك، ودورها في عملية الضبط الاجتماعي، وعوامل قوتها وضعفها ثم انهيارها.
• جانب جديد في الفكر الخلدوني
سعى الكاتب د. سراج الدين في الفصل الخامس من الكتاب لتناول جانب جديد في الفكر الخلدوني، مازال يحتاج إلى الكثير من الدراسة والبحث، وهو الجانب الخاص برؤية ابن خلدون للقوانين المنظمة للعلاقات الدولية واتجاهات تطورها.
بالنهاية، في الفصل السادس والأخير؛ يستعرض الكتاب كيف أعاد علماء الغرب اكتشاف تراث "ابن خلدون" ونظريته الاجتماعية التي جاءت في المقدمة بعد عصور طويلة من كتابتها، وكيف قاموا بمقارنتها بكثير من نظريات علماء الغرب المحدثين. ويكفي هنا أن نشير إلى ما أكده R Altamira وهو واحد من أبرز علماء الغرب الذين اهتموا بتراث ابن خلدون.