إذ تطلُّ الشمسُ برأسها المتوَّجِ بأشعةِ الذهبِ، تبدأ ملحمةُ الصيفِ، تلك الأيقونةُ الزمنيَّةُ التي تفتحُ أذرعها لتعانقَ الروحَ بكلِّ ما فيها من تجدُّدٍ وبهجةٍ. ليس الصيفُ مجرَّدَ فصلٍ، يعبرُ بنا على جسورِ الأيامِ، بل هو شاعرٌ، ينثرُ أبياتَه على صفحاتِ الزمنِ، فيكتبُ قصائدَ، تتراقصُ على إيقاعاتِ النسيمِ، وتُغنِّي بألحانِ النجومِ.
تتسلَّلُ أولى خيوطِ الشمسِ من خلفِ الأفقِ، تخترقُ ستائرَ النافذةِ لتوقظني من سباتي، وكأنَّها تناجيني بلطفٍ: "استيقظ، فالعالمُ خارجَ هذه الجدرانِ، ينتظرُ بصمتك الفريدةَ، يترقَّبُ خطواتك على دروبٍ جديدةٍ". فأجيبها بكلِّ حيويَّةٍ، متلهفاً لرسمِ يومٍ آخرَ، يُضاف إلى لوحتي الكبيرة.
الصيفُ، بلوحتِه الفنيَّةِ الخلَّابةِ، يرسمُ بألوانٍ، تفيضُ حيويَّةً ونضارةً: الأزرقُ السماوي، يغمرُ الفضاءَ بأنفاسِه العذبةِ؛ والأخضرُ يفرشُ الأرضَ بسجَّادٍ من الأوراقِ والأغصانِ؛ والأصفرُ الذهبي، يُرسِلُ شذراتٍ من الضياءِ، تلمعُ مثل قطعِ العملةِ النادرةِ. هذه الألوانُ، تعانقُ بعضها لتقدِّمَ لنا مهرجاناً بصرياً، يبعثُ في النفوسِ البهجةَ والسرورَ.
وما الصيفُ إلا فرصةٌ للهروبِ من قيودِ الروتينِ. كلُّ رحلةٍ خلاله، تشكِّلُ فصلاً جديداً في روايةِ الحياةِ. نسافرُ ليس لنرى أماكنَ جديدةً فقط، بل ولنعيدَ أيضاً اكتشافَ أنفسنا من خلال عيونِ عالمٍ، يتَّسعُ بحجمِ أحلامنا. كلُّ وجهةٍ، تمنحنا قصصاً، تستقرُّ في ذاكرتنا، تنضجُ مع الزمنِ مثل ثمارٍ يانعةٍ.
البحرُ، ذلك المعشوقُ الأزلي في الصيفِ، يصبحُ ملاذاً، يغسلُ أوجاعَ الأمسِ، ويبعثرُ أفراحَ اليومِ على شاطئِه. الأمواجُ تداعبُ الرمالَ بلمساتٍ خفيفةٍ، تحكي قصصاً، قَدِمَت من أعماقِ الزمانِ، وكلُّ حبةِ رملٍ، تروي رحلتَها المذهلةَ عبر الأعماقِ والأزمانِ.
ليالي الصيفِ أمسياتٌ مُشعَّةٌ بالنجومِ، حفلاتُ الشواءِ التي تجمعُ الأصدقاءَ والعائلةَ. تلك الليالي، تنسجُ من الضحكاتِ والأحاديثِ الدافئةِ قماشاً معطَّراً برائحةِ الألفةِ والمودَّةِ، فالنجومُ تتلألأ مثل العيونِ المتأمِّلةِ، تحاورنا بلغةٍ كونيَّةٍ، تترجمها القلوبُ قبل العقولِ، وتحكي عن مواعيدَ، لم تُكتَب بعد في سجلاتِ الزمانِ.
أمَّا الأمسياتُ التي تنبضُ بأصواتِ الأطفالِ الضاحكةِ، وتمتزجُ فيها ألوانُ الفوانيسِ الورقيَّةِ المعلَّقةِ بين الأشجارِ، فتبعثُ في النفسِ سلاماً، يشبه سلامَ الطبيعةِ عندما تستقبلُ الندى في الصباحِ الباكرِ. كلُّ طفلٍ، يركضُ خلفَ فراشةٍ، أو يُطارِدُ كرةً، يجسِّدُ لوحةً بريشةِ فنَّانٍ، يعشقُ الحياةَ، ويرسمُها بألوانٍ زاهيةٍ، تتحدَّى القتامةَ والألمَ.
ومع غروبِ الشمسِ، تلك اللحظةُ الساحرةُ حيث تغفو الشمسُ في أحضانِ الأفقِ، تتركُ خلفها قبلةً دافئةً، تتلوَّن بألوانِ البنفسجِ والبرتقالي... تتحوَّلُ السماءُ إلى لوحةٍ فنيَّةٍ، تبدو وكأنَّها تحتفلُ بنهايةِ يومٍ آخرَ، وتَعِدُنا بأن غداً سيكون مملوءاً بالأملِ والجمالِ.
في هذه الأيامِ، حيث يتلاشى الفصلُ بين الزمانِ والمكانِ، نعيشُ لحظاتٍ، نقشها الصيفُ بأناملَ من نورٍ، ونخوضُ تجاربَ، تزيدنا تعلُّقاً بالحياةِ، وشغفاً بكلِّ جديدٍ. أقولها لكم بصِدقٍ: الصيفُ، ليس مجرَّدَ فصلٍ، إنه دعوةٌ لاكتشافِ العالمِ، واكتشافِ الذاتِ، تجديدِ العهودِ مع السعادةِ، والاحتفالِ بكلِّ لحظةٍ وكأنَّها أغنيةٌ، تُعزَفُ لأوَّلِ مرَّةٍ.
هكذا، بين صفحاتِ الأيامِ، وتبدُّلاتِ الفصولِ، يبقى الصيفُ شاهداً على تجدُّدِ الحياةِ وازدهارها. ومع كلِّ نسمةٍ، تحملُ عبقَ البحرِ، وكلِّ زهرةٍ، تتفتَّحُ بتلاتها لتستقبلَ الشمسَ، نتذكَّرُ أن في الحياةِ ألواناً لا تبهت، وأحلاماً لا تموت، وذكرياتٍ تبقى راسخةً في القلبِ مثل نقشٍ على حجرٍ!