في نيّتي الكتابة عن جملة

إرسال اللحية لم يكن وقفًا على أهل الملة، بل عادة مارسها البشر،  كما أن إرسالها تقليد له مكانته، ومن ذلك قولهم لبعضهم إذا أراد تأكيد شيء: «إن لم يكن ما أقوله صحيحًا فاحلق لحيتي»! وقد كنت أظن أن هذه «المشروطية» من بدع المتأخرين،  ومن مخلفات المُوّلدين، ومنتوجات المعاصرين، وإذا بالأمر عكس ذلك 

وهذه الجملة أعني –أحلق لحيتي– كما أشار إلى ذلك العلامة أحمد الغزاوي يقولها «الرجل لصاحبه» تأكيدًا لحدسه وتخمينه، وظنه أو يقينه مهددًا أو متوعدًا، أو مكذبًا أو متحديًا 

وتذكر بعض كتب الأدب تأصيلاً لهذه المقولة «أحلق لحيتي» القصة التالية: (يروي العُتبي عن رجل من أهل المدينة -عليهم سحائب النور والحب والرحمة بإذن الله– يُقال له «أبو الحُر» بضم الحاء، زعم أنه دل العُتبي على امرأة لم ير مثلها قط ليتزوجها، قال «فإن لم ترها كما وصفت فاحلق لحيتي.. قال العُتبي: فلما زُفّت إليَّ وجدتُها أكثر مما وصف.. فلما كان في السحر –أي قبل الفجر- إذا إنسان يدقُّ الباب فقلت: من هذا..؟! قال: أبو الحُر.. وهذا الحجام –أي الحلاق– معي.. فقال: قد وفّر الله لحيتك يا أبا الحُر.. الأمر كما قلت

والقصة برمتها تفيد كما يقول العلامة الغزاوي «معرفة أولية حلق اللحية عن البدو والحضر»..!، لكن الأمر –أظنه تجاوز ذلك، إذ تبدو اللحية بوصفها «مجسمًا بارزًا» مجالاً للتحدي وإثبات الرجولة، بحيث يصبح الأمر هكذا «لا يستحق اللحية من لم يكن ذا رقة ومعرفة في كلامه، وهي –أي اللحية– لا تليق إلا بمن يعرف ما يقول،  ويزن كلامه ويعتمد عليه

وهنا تبدو اللحية وكأنها «شهادة مقروءة» و«علامة مسجلة» لمن تجرم أقواله ويصدق كلامه

إن القصة غنية بالدلالات، فاللحية مثال للصدق والوقار والصراحة والنزاهة،  والاستقامة، وما زلت أتذكر أننا في المدينة المنيرة، عندما يصدر أي خطأ من ذي لحية، يعاتبه الناس بقولهم «يا أبوي استحي على ذقنك»؛ أي أكرمْ لحيتك ولا تضعها في مواضع الرديء والخلل والخطأ والفجور والحرام والانحراف 

وإذا كان المتأخرون لا يعرفون للحية قيمتها فهذا لا يضر اللحية، ولا ينقص من مكانتها، فمتى صدر من الملتحي ما يشين فمن الظلم أن تحاكم اللحية نيابة عنه،  وإنما يجب أن يحاكم هو؛ لأن الحق يقول جل وعز: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»

وإذا حملت اللحية «المحاسن» للكرام البررة فمن الظلم أن تتحمل «مساوئ» وفسوق وفجور الرجال اللئام الفجرة، وقد قال شيخنا «أبا سفيان العاصي» قولاً سديدًا عندما صرَّح قائلاً: عندما كنتُ صغيرًا أوصاني معلم الدين بإعفاء لحيتي من الحلاقة، مؤكدًا أن اللحية تستر وجه الرجل وتُجمّله، مثلما أن الحجاب يزيد من جمال المرأة ويجعلها جذابة، لكنني عندما كبرتُ أدركت أن بعضًا من الرجال يستترون وراء لحاهم، ويختبئون خلف شعراتها المتطايرة، ويتجملون بِها في المحافل والمجالس