لم أحبّ يوماً الناسَ المتكلّفين المتصنّعين كثيري الكلام مثيري الضجيج، يصيبُ زيفُهم روحي بالصداع..
لم أحبّ يوماً من يتشدّق بمعسول القول طيلة الوقت، فتراه لا يقول لسامعه إلا ما يريدُ سماعَه وإن كان مضرّاً له أوسيئاً بحقّه، فالأهم بالنسبة إليه الحفاظُ على صورته ومصالحه مع هذا الآخر أو غيره..
لم أحبّ يوماً المُجاملين على الدّوام ولو على حساب الخير والحقيقة.. وحين يتطلّب منهم الأمر وقفةَ حقٍّ فعليّةٍ تراهم يراوغون ويختفون تحت ستائر مخمل الألفاظ فلا تأخذ منهم حقاً ولا حقيقة..
لم أحبّ يوماً أولئك الذين يتعمّدون باستمرار اختيارَ أفخمِ الجُمل وأكثرها بريقاً، بينما فحواها فارغٌ من أيِّ معنى مُطفَاٌ مُعتم.
لم أحبّ يوماً المُرائين، الذين يبنون لنا قصوراً من الكلام الباذخ المًترَف الأناقة، وحين نحتاجُهم فعلاً، لا نجد لديهم مجرّد سقفٍ معنويٍّ نلجأ إليه، ولا حتّى شبه جدار نتكئ عليه..
لم أحبّ يوماً من يرتدون القفّازات في علاقاتهم مع المقرّبين منهم، كأنهم يخافون ترك بصماتهم على أرواح الآخرين، أو كأنهم يستعدّون مسبقاً للتبرّؤ من أدلّة إشهار مشاعرهم، لسهولة استبدالها وتعديلها عندما تقتضي الضرورة، عندما تقتضي مصالحُهم..
لم أحبّ يوماً الكلامَ المعلّبَ المحضّرَ مسبقاً، الموضّبَ بعنايةٍ للاستعمال عند الحاجة، تماماً كأيّ وجبة مجمّدةٍ نتناولها من ثلّاجةٍ ونقدّمها بعد تذويبها بدفء العواطف الجاهزة للاستعمال عند الطلب، العواطف الزائفة، المليئة بالموادّ الحافظة من افتعالٍ وتصنّعٍ، تلك المواد التي تفسدُ بهجةَ الحروفِ ومقاصدَها..
أحبّ من الناس البسطاء.. الذين تسبقُ دمعتهُم كلمتَهم حين يتأثرون لحزن عزيزٍ عليهم، وتخونهم جملُ الإطراء حين يفرحون لنجاح إنسانٍ يحبّونه.. الذين لا يجدون أحياناً من التعابير ما يناسبُ عمقَ صدقِهم، فإذا تكلّموا ليعبّروا جاء كلامُهم غامراً دافئاً متدفّقاً بالحبّ، حتى لو لم يرتدِ أجملَ الأثواب وأفخرَها..
أحبّ من الناسِ الجاهزين دوماً لفتحِ أيديهم لعناقٍ داعمٍ حتى لو لم ينبسوا بأيّ حرف، من يشرّعون أبوابَ قلوبهِم لاحتضانٍ وارفٍ حتى لو لم يكن لديهم ما يكفي من الفيء، من تتقنُ أكفّهم التصفيق، من لا يعرفون التكلّمَ من خلف الأقنعة، من يمقتون القفازاتِ حتى لو كانت من حرير..
أحبّ من الناسِ من يواجهوننا بالحقيقة التي تنير لنا الطريق بلا خوفٍ من غضبنا، من لا يتساهلون معنا إن أخطأنا في حقّ أنفسنا، من لا يجاملوننا على حسابِ ما هو الأفضل لنا فعلاً..
أحبّ من الناس من بسمتُه في وجهنا جسرُ عبورٍ متينٍ نحو الراحةِ والأمان، وليس طريقاً معبّداً بالعشب والبنفسج قد يقودُنا الى الهاوية..
أحبّ من الناس الصادقين، من يضعون ومضاتٍ من ضوءِ روحهم في علب هدايانا، حتى لو لم يستطيعوا تغليفَها بلامع الألوان.. من يطرّزون كلماتِهم بخيط الحبّ الذي يعلقَ بأطرافِ قلوبِنا كالعطرِ حتى بعد تبخّر الكلماتِ من آذاننا..
أحبّ من الناس أهلَ الفعلِ وليس أهلَ القول. الواضحين، محترفي الحبّ، محترفي الصدق، محترفي الحقيقة.