يعيدني العيد طفلة.. تفلت يد العمر وتجري هاربة من قطار السنين المسرع المجنون.. تجبره على التمهّل لتستمتع بكلّ ما يحمله العيد من فرح وسرور..
يرجعني الى أعذب مراحل الحياة، طفلة تزيح بأجنحة الحنين ما تراكم على القلب من طبقات السنين المتتالية، وتطير بشغف مع أحلامها..
يستحضر فيّ كلّ التفاصيل المبهجة الصغيرة: انتظار الصباح المشرق بوجوه الآباء والأجداد، صوت المؤذّن الصادح بتكبيرات العيد، رائحة الكعك الشهيّ المصفوف بأناقة في أجمل زوايا المنزل، عطور المتزينين لاستقبال أجمل الأيام وأكثرها حبوراً..
يعيد إليّ حواس الطفلة المتحمّسة ليوم العيد، بفستانها الزاهي وزينة ضفائرها المزركشة.. تصبح حواسي أكثر تيقظاً فأرى الجمال في كلّ تفصيل من حولي، وأسمع موسيقى الحياة في كلّ حركة، وأشتمّ عبير السلام العابق في كل مكان..
يسكب العيد على روحي دفء الأمان فتتفتح كل البراعم النائمة تحت غبار عجلات الوقت المتسارع، وتزهر وتثمر كلّ أنواع الفرح.. ويغمر قلبي بالسكينة فتتلاشى كل مشاعر القلق والتعب المترسبة من ثقل السنين وأعبائها..
كبرت وصرت أمّاً، ومازلت أنتظر ليالي العيد لأمشي في الشوارع المستعدة للاحتفال، أنظر إلى المصابيح الملوّنة المشعّة بانبهار فتاة صغيرة ترى الأضواء للمرة الأولى.. أراقب بدهشة الدّمى المتحركة المعروضة في واجهات المحالّ المضاءة، وأشاهد وجوه الناس المتوهجة بالفرحة والإيمان..
أعشق رؤية وجوه الأطفال في ليالي العيد وصباحاته.. أعشق رؤية سعادتهم الغامرة بالعيدية مهما كانت قليلة، بالثوب الجميل حتى لو لم يكن جديداً، بأوّل فطور صباحيّ بعد صيام شهر كامل..
أعشق عبير رائحة القهوة تختلط بأنفاس الصباح بعد انقطاع طويل، ضجيج العائلة وتداخل الأصوات وتزاحم الأيدي حول طاولة غداء تجمع الصغير والكبير والشيب والشباب.. وترتاح نفسي لهذه الطمأنينة الغامرة التي يخلقها تبادل أحاديث الذكريات العذبة مع أحبّاء باعدتني عنهم الأيام ومشاغلها..
أحبّ أنّ الأعياد تجمعنا بأعزّائنا الذين يمنعنا ازدحام الأيام العادية عن التواصل معهم..
أحبّ العيد، وفكرة العيد نفسها، وتقاليد العيد وعاداته وأفراحه الصغيرة والكبيرة..
أحبّ العيد.. وأراه دائماً، ومنذ طفولتي المبكرة حتى اليوم، يوماً سحريّاً في زحمة الأيام الروتينية المتشابهة.. يوماً يشبه في خيالي غيمة ملوّنةً يملؤها الضوء والدفء، تنتشلنا من رتابة أيامنا العادية، وتشحن روحنا بالبهجة العارمة..