لا يريد أحدنا أن يستيقظ من نومه ذات صباحٍ ولا يجد أحداً إلى جانبه، ويمضي عمره في الانتظار، إما أن ينتظر مكالمةً من حبيبٍ، وإما زيارةً من ابنٍ، أو يرتبط بحضور شخصٍ له أهميةٌ في حياته.
العلاقات التي تستمر طويلاً، تحتاج إلى ملء المسافات الفارغة، بينما تَلزَمُ العلاقات المنقطعة لباقة الانسحاب، أما عودة العلاقة فتحتاج إلى مرآة المكاشفة.
أسبابٌ كثيرةٌ، تجعل العلاقات ناجحةً، وأخرى تُفشِلها تماماً. نظرية بيرك، المحافظة والمتطرفة في كلامه المأثور، تقول: "كل ما هو صلبٌ يذوب في الهواء، وكل ما هو مقدسٌ هو دنس، والبشر يضطرون في النهاية إلى مواجهة واقع ظروفهم الحياتية وعلاقتهم بغيرهم من البشر بحواس واعية". هنا يمنح الارتباط معناه الحقيقي خالياً من سحر الغموض، أو القدسية، ويربطه بالحاجة الإنسانية، والالتزام بالخير المبتغى؛ أي إن البقاء لا يكون من أجل حلفٍ، أو وعدٍ. هذا الإدراك الرصين يجعلنا أكثر يقظةً ورحمةً، ويدفعنا إلى أن نرجِّح أن العقل لا يُبعد كل مظاهر العاطفة، فالثقافة النفسية تحيل تجربة استمرار العلاقة لتصبح موضوعاً من أجل تحقيق المشاركة، مشاركةٌ ليست لها نهاية، ولمعرفة النفس والتدقيق الذاتي، يجب ملء الفراغات المناسبة بأناسٍ يستطيعون ملء فراغنا تماماً.
إذا استحال تواصل العلاقة، فالقطيعة بقطعها امتيازٌ أساسي لحرية الذات المعذَّبة بين إرضاء النفس، أو الآخر، ويحدثُ أن هناك انفصالاً متكرراً، ومشاعر علينا إخراجها، أو تركها على الرفوف، والسؤال هنا: هل الانفصال فعلاً هو اعتداءٌ على الشخص الآخر كما يكشف ألبرت هيرشما في كتابه "الانسحاب والكلام والإخلاص"؟
في العلاقات الاقتصادية، يكون أمام الزبائن غير الراضين عن المُنتج خياران، إما الانسحاب؛ أي التوقف عن الشراء، وإما الكلام؛ أي التعبير عن عدم الرضا شفاهياً. أما في العلاقات الإنسانية غير الاقتصادية، فيبدو أن الانسحاب هو الخيار المفضَّل، فالحياة متى ما أثَّرت في الحرية، طغى الرحيلُ، وهو هنا؛ أي الرحيل، لباقةٌ على قدر لباقة البقاء.
بعد انقطاع علاقةٍ ما، تظهر أوهامٌ إيجابية، مثل الشعور بالأمان، والرفاهية، وهذه المشاعر تنطوي على درجةٍ معينةٍ من الخيال. تقول ساندال موراي في مقالة "أوهام إيجابية في العلاقات الرومانسية": "إن الحب ليس أعمى، بل بصيرٌ، وكما يُتوقَّع انتهاء علاقةٍ ما بعد طريقٍ طويلٍ في الخيالات والأوهام، يكون هناك أيضاً خطُّ رجعةٍ للعلاقة ذاتها، وعلى نمط الأوهام السلبية، تكون هناك أوهامٌ إيجابية".
ويرى ماكس فيبر، أن "العقلنة لا تستبعد كل مظاهر العاطفة، بل تولد محاولاتٌ لاستعادة التجربة التي تهيمن عليها الحماسة والعاطفة بشكل مفوضٍ ورقيقٍ".
وبعض الأمور تقاس بالعقل، لا بالقلب، كما قال الشاعر:
فانظر بعقلك إن العين كاذبةٌ واسمع بقلبك إن السمع خوّانُ
إن عودة العلاقة تحتاج إلى مرآة المكاشفة: ماذا أحتاج، وكيف أحتاج إليه، ولمَن أقدم، وكيف أقدمه؟ تصحيح الأولويات والأحقِّيات، يجعل العلاقة واضحة جداً.
أخيراً: العلاقات أمرٌ شخصي، يصبُّ لمنفعةٍ معينةٍ، وطلب نفسي وإنساني في جميع المجالات، ولا بد أن يدرك المرء حاجته وأهميته وقدره تماماً مثلما يقدّر الطرف الآخر، فالعلاقات مثل بيوتنا فيها غرفٌ مغلقةٌ، لا يمكن دخولها بلا سببٍ، وأخرى من الضروري دخولها لسببٍ معيَّن، وعلينا أن نتعلَّم أي غرفةٍ نحتاج إليها، وألَّا نركن إلى غرفةٍ واحدةٍ كيلا تصبح سجناً.