بين الثمن والقيمة..

مريم شمص
مريم شمص
مريم شمص

قد يترك الناس مساحات رحبة وشاسعة، ليحتموا بزاوية ضيّقة وارفة، تغمر رؤوسهم بالحنان والرأفة على الرغم من ضيقها..
وقد يغادرون قصوراً شاهقة يشعرون فيها بالبرد والوحدة، ليلجؤوا إلى مكان دافئ يلوّن أرجاءه الأنس والسلوى على الرغم من تواضعه..
وقد ينام الإنسان ملء عينيه على بلاط عارٍ يهدي غفوته أحلاماً هانئة، ليهرب من وسادة ريشٍ يحشوها كلّ ليلة بمخاوفه وقلقه التي لم يجد من يصارحه بها يوماً، وسادة ريشٍ لم تمنحه يوماً سوى الكوابيس..
قد تمتلك سيارة حديثة فارهة تقودها إلى حيث شئت ومتى شئت، لكن وحيداً يتآكلك الضجر، بينما غيرك لا يملك سوى قدميه ليقصد عليهما مشياً بحماسة وفرح أمكنة تحتفل فيها روحه بأنس الأحبة والأصدقاء..
وقد تقضي عمرك لاهثاً تسعى لنسج شبكة علاقات مُحكمة بمن تظنّهم أقوياء طمعاً بدعمهم حين تحتاج، مغترّاً بوهج حضورهم وسلطانهم، لتصدم بعدها أنّ ضوءهم لهم وحدهم، والمساحة التي يخصصونها لغيرهم ليست سوى عتمة الكواليس وهوامش الحاشية.
ليست العبرة في ثمن ما تملكه في حياتك، بل العبرة في القيمة المعنوية التي يقدّمها لك..
ولا العبرة بقوّة من حولك ولا مراكزهم، بل العبرة في ما يمنحونه لك من دعم حين تحتاجه، وفي أهمية المساحة التي يفردونها لك في حياتهم.
فكم من قويّ يمتلك كل وسائل العطاء وأسبابه، سيحجب عنك يد العون حين تقصده فلا يفيدك بشيء.. بينما قد تجد إنساناً صنّفته الحياة في خانة الضعيف يهرع بإمكاناته الضئيلة لحمايتك وردّ الأذى عنك حين يلزم الأمر.
وكم من بيوت متواضعة ستتلقف حزنك بسخاء باذخ، فتفتح لك بابها بالحبّ وتحسن ضيافتك، فتفرش سريرك بحرير الاهتمام وتزيّن أطراف مقعدك بياسمين الترحاب وتعزّزك وتكرمك خير الإكرام حين تدخلها.. بينما تستقبلك عتبة قصر مترف بالجفاف والجفاء وعبوس الجبين..
النفس تميل لما يريحها، والقلب يختار ما يملأه أماناً، وليست الراحة والأمان باتساع منزل ولا بفخامة قصر ولا بأناقة مظهر..
والروح تنتمي لمن يمنحها السلام والدفء، ولغة الروح عصيّة على الفهم عند العالقين في القشور.
والإنسان الواعي الذكي هو الذي يعرف القيمة الحقيقية للأشياء والمعدن الأصلي للأشخاص، فلا يغريه زيفٌ مبهر ولا يغشّه مظهر كاذب ولا يجذبه سلطان ذي قوة ونفوذ. بل يحسن اختيار محيطه ومكانه وأشخاصه، بأن يقيس كلّ ذلك بميزان الروح من دون أن يضلّله الشكل الذي قد تبدو عليه الأمور..
انظر بعين روحك قبل أي شيء، انظر خلف العيون والوجوه والأثواب، انظر خلف القشور.. انظر بعين روحك واختر بحرصٍ: مكانك، أشخاصك، طريقك ومرافقيك. هذه الخيارات ستحدّد حياتك كلها، وبشكل أو بآخر، ستحدّد جزءاً كبيراً من سعادتك أيضاً.