حدث ذلك بالصدفة.. هرعت إلى أول مطعم قادتها إليه قدماها في تلك الصبيحة الماطرة، أواخر الخريف. كانت قد قررت بعد فطور عمل طويل وشاق ألا تعود إلى المكتب، وأن تتمشى على الشاطئ وتخلي ذهنها من ضغط الصفقات التجارية، وتأخذ بعض الصور إن راق لها ذلك. كانت تلك طريقتها للاسترخاء وشحذ الطاقة...
فاجأتها الزخات الثقيلة على الكورنيش، وجرت كيفما استطاعت بكعبها العالي وتنورتها الضيقة نحو المطعم الصغير المظلل بأشجار كستناء ضخمة. خلعت سترتها المبللة، وتفقدت قميصها الخفيف وهي ترتجف من البرد... وتقدم نحوها شاب قوي البنية ومدّ لها منشفة لتجفف شعرها، وابتسم... وخفق قلبها.
شعرت لحظتها بأن صفحة تطوى في حياتها. وأخرى تفتح...
تركته يأخذ سترتها وتبعته إلى الداخل. شربت ألذ فنجان شوكولاتة ساخنة ذاقته في حياتها. وطلبت طبق اليوم. حساء سمك وسلطة معكرونة. وأخرجت آلة تصويرها الصغيرة وأخذت الكثير من الصور.
لم يكف عن المشي والمجيء من وإلى مائدتها. تناولت وجبتها بالكامل. شكرته على لطفه، وأثنت على الطعام. وطلبت قهوة. وأتاها بها، وتبادلا بعض الكلام. اسمه سامي. افتتح المطعم منذ أربع سنوات، مع بعض الشركاء، ويفكر في الاستقلال، وإنشاء شيء خاص به... قالت له ضاحكة إن بإمكانها مساعدته. فهي تعمل في مكتب استثمار، ولديها دراية بالجانب المالي والإداري للمسألة، وضحك هو أيضًا، ولكنه لم يعلق على كلامها...
أتاها بسترتها وقد جفت، ونظرت بدهشة إلى ساعتها. منتصف الظهيرة. لم تشعر أبدًا بمرور الوقت.
كان المكان قد بدأ يزدحم بالزبائن. نهضت مرغمة، وأحضر مظلة وأصرّ على أن تأخذها معها. كانت لا تزال تمطر.. وعدته بأن تعيدها له. كانت تعيش أحلى أيامها... في المساء، وهي تتقلب في السرير، وترقب قطرات المطر التي تسيل على زجاج الشرفة، عنت لها فكرة مجنونة، وقفزت من السرير...
فتحت حسابًا في الإنستغرام باسم «ميس. أ»، وهو تحوير لاسم «سامي»، ونشرت فيه صور الأطباق التي قدمها لها صاحب المطعم الشاب، وذيلتها بعبارة لن يفهمها غيرها: «صدفة... خير من ألف ميعاد...».
لقيت صفحتها نجاحًا لم تتوقعه. زارت سامي لتعيد إليه مظلته، وتتناول وجبة أخرى في مطعمه.
تحادثا بعفوية، وضحكت كثيرًا، وأخذت المزيد من الصور التي نشرتها في صفحتها ووقعتها، كما فعلت أول مرة باسم «ميس. أ»، وسارع متابعوها، الذين تضاعف عددهم؛ للتعبير عن إعجابهم بالصور، والسؤال عن وصفات الأطباق، وكيفية تحضيرها، وعن معنى التعليق الذي كتبته كعنوان لها: «رفرفة المشاعر»...
واصلت زياراتها لسامي. مشاعرها نحوه تزداد رسوخًا، وهو، وإن كان يستقبلها كل مرة بابتسامة واسعة وفرح طفولي مؤثر، لم يحاول أبدًا أن يتجاوز حدًا معينًا في علاقتهما. ولم تستطع، من جانبها، أن تتجرأ على كسر ذلك الحاجز سوى في تعليقاتها على صور أطباقه التي صارت متنفسها؛ لتعبر له عن عمق ما تحس به نحوه. كانت كلماتها رسائل تبعثها له، وهي تعرف بأنها لن تصل إليه، ولن يفهمها أحد من متابعيها الكثر...
طلبت فنجان شوكولاتة ساخنة، كتلك التي قدمها لها أول مرة، وصورتها، وكتبت تحتها: «دفء اللحظة الأولى... يوم رأتك عيناي. ميس. أ».
ويوم قدم لها قطعة من تورتة الفراولة، علقت تحت الصورة التي نشرتها في حسابها: «حمرة الخجل وأنت تقدمها إليّ... من منا كان أكثر ارتباكًا من الآخر؟ ميس. أ».
ذات مساء، اتصل بها سامي، ودعاها لتذوق قالب حلوى فانيلا عمل على تطويرها. هرعت إلى المطعم والفرحة لا تسعها. واستقبلها بحفاوته المعتادة، وأجلسها في مائدتها الأثيرة المطلة على البحر. قال إنها ضيفته، وهو يستأذنها لأن يشاركها العشاء. كاد قلبها ينفجر وهي تراه يجلس أمامها، يحادثها، ويبتسم لها، ويشاركها الطعام. أتى قالب الحلوى أخيرًا. ونظرت إليه غير مصدقة ورفعت رأسها نحوه. كان قالبًا فخمًا، تتوسطه عبارة مرسومة بالشوكولاتة ومزينة بحبات عقيق ذهبية: «أحبك، ميس. أ».
مدت يديها إليه، وأغلقت عينيها بنشوة..