تخرجت منذ سنتين، ولم أعثر بعدُ على عمل يناسبني، والداي لا يتوقفان عن حثي على الاتصال بالمؤسسات الحكومية والشركات والجمعيات وحتى الأشخاص ذوي السلطة، ومن ضمنهم البرلماني الذي يمثل مدينتنا، عسى أن يجدي تدخله نفعاً وأحظى بوظيفة، لا يريدان أن يفهما أن ما أحلم به لا يوجد في بلدنا، أبي بالخصوص لا ينفك يردد أمامي بامتعاض وحرقة: «كنت أعرف أن هذا ما سيحصل، أي جنون دفعك لدراسة الفنون؟ ماذا ستفعل بشهادتك الآن؟ ما نفعها؟ نعلقها على الحائط وكفى؟ أنت لا تسمع الكلام، مثلك مثل أمك، أخبرتكما بأن الفن لا يضمن لقمة العيش، انظر إلى أقرانك، ذاك درس الهندسة، والآخر سيتخرج طبيباً، وغيرهما ضمن وظيفة محترمة في التعليم والتجارة والنقل والمجالات الأخرى.. وأنت تقعد في الدار كالولايا..».
عندما يطلق والدي العنان لغضبه لا يستطيع أحد أن يوقفه، وينتهي الأمر عادة بمشادة حادة بينه وبين أمي.
جدتي هي الوحيدة التي تحس بي، وتعرف ما أفكر فيه: «أدعو معك يا ولدي، ليس لأن تسافر، وإنما لأن تجد ما يغنيك عن الغربة، لا أريدك أن تتركنا يا صغيري، كل شيء ممكن في بلدك، لست مضطراً للرحيل..».
بلى يا جدتي، أنا مضطر، وراغب في ذلك.
لا أحد هنا يفهمني.
يوم عيد ميلادي الأخير، قعد والدي يذكرني بإلحاح بأنني لم أعد طفلاً: «بلغت الرابعة والعشرين.. أتعرف ما يعني ذلك؟ تزوجت أمك في عمر أصغر من هذا، وكنت أشتغل وأصرف على بيتي وعلى والدي وإخوتي، إلى متى ستظل متشبثاً بأذيالنا؟ متى ستكبر؟».
لم أشعر بطعم قالب الحلوى الذي أعدته أمي، ولم أضحك لمزحة أختي التي أهدتني باسم العائلة كما قالت وهي تغمز بمرح، منشفة وصابوناً ومعجون أسنان ومنظف شعر وآلة حلاقة وبطاقة رسم عليها الطريق الذي يجب أن أسلكه لأنطلق من غرفتي إلى الحمام.
أمسية كئيبة انتهت ببرود.
تفرقنا، واستلقيت على سريري أفكر كيف أعول نفسي إن أنا تركت البيت وخلصت والدي من عذاب رؤيتي دون شغل ولا مشغلة، هل تخطيطي للهجرة إلى أسبانيا أو إيطاليا جنون؟ أود أن أواصل دراستي هناك، لديّ إحساس بأنني سأنجح، وأحقق أموراً كثيرة يصعب عليّ إنجازها هنا في بلدي.
لم أنم ليلة عامي الرابع والعشرين، ولم أفلح في العثور على حل لمشاكلي.
قمت في الصباح الباكر، أرتدي بدلة الرياضة وأخرج لأركض كما أفعل كلما ضاقت بي الدنيا.
نور الصباح الخافت ذكرني باللوحة الأخيرة التي بدأت أرسمها، ثم تركتها، درجات الرمادي المائل للزرقة كانت تترجم كآبتي الداخلية، والدي محق، لم أعد صغيراً، لا يمكنني الاستمرار في العيش هكذا، عالة على أسرتي، دون أمل في تغيير شيء في حياتي.
انطلقت صوب الشاطئ وركضت طويلاً وأنا أغمض عينيّ حيناً وأفتحهما حيناً آخر لأستشعر قوة نور النهار الذي طغى على ما تبقى من غشاوة الفجر المرتعشة، بدأت الحركة تكثر على الكورنيش مع طلوع أولى أشعة الشمس، واستدرت دون حماس أعود من حيث أتيت وأنا لا أتوقف عن الركض.
لمحت من بعيد بائعة الزهور القريبة من الشارع الذي نسكن فيه، سيدة نحيلة تتحرك بخفة وتبتسم على الدوام.
لم تكن تبتسم هذه المرة عندما اقتربت منها، كانت تحمل باقة زهور رائعة المنظر، خففت خطاي وحييتها وأنا أهتف: «الحياة غير عادلة فعلاً.. هناك أشخاص محظوظون تهدى لهم باقات الزهور الفاخرة.. وهناك تعساء الحظ مثلي..».
نظرت إليّ نظرة غريبة ولم تنبس بكلمة، وإنما اجتازت الطريق وولجت مبنى وُضعت لافتة عزاء ضخمة قرب بابه.
أحدهم تُوفي، والزهور له.
واصلت ركضي وقد أوحى لي الموقف بفكرة.
لوحتي الرمادية بحاجة لألوان.
باقة ألوان براقة، مشعة وحزينة.
باقة عزاء.