أقف وراءها وهي تكتب. أستطيع أن أرى ما تخطه في دفتر الحسابات الضخم. قلمها يجري بسهولة على الأسطر. رأسها منحنٍ. وضفيرتاها الرماديتان مربوطتان بشكل بديع حول رأسها. تصفيفتها الأثيرة التي لم تغيرها منذ عرفتها. أحياناً، تفك الضفيرتين وتترك شعرها ينسدل على ظهرها وهي تقرأ في صحن الدار، تحت شجرة البلوط التي حفرنا حولها حوضاً واسعاً، زرعنا فيها تشكيلة من الأزهار التي تحبها، ياسميناً وورداً ونرجساً. تجلس كثيراً هناك، تستمتع بدفء الشمس التي تتسلل من بين أغصان شجرة البلوط، وتغرق في قراءاتها.
أحب كثيراً أن أسترق النظر إليها من شرفة الورشة. لم يكن للحائط الذي يفصل الدار عن مكان عملي منفذ داخلي، لكنني حفرته، بعد وفاة الوالد. أمور كثيرة غيرتها بعد رحيله. وضعت حسابات المحل رهن إشارتها، أتيت لها بمكتب وضعته في الركن الداخلي وفصلته عن الورشة بستارة غليظة، وفتحت الشرفة التي تطل على صحن الدار، وأتيت بقرص دوار جديد يواجه الشرفة، وبدأت أعمل عليه كلما عنَّ لي أن أرقبها وهي تلتهم كتبها في الظهيرة وشعرها منساب على ظهرها.
زمان، كانت رباب أختي تردد بأنني مجنون. لم توافق على كثير من اختياراتي، ولم ترض عن الطريقة التي عشت بها بعد وفاة الوالد. سامحها الله، كانت وراء كثير من شجاراتي معه. لم تبلع أبداً كيف تزوجت سهام، ولا كيف تركتها تمسك كثيراً من أمور حياتي.
لكم ظلمتها... كم من الأهل يزورون أختي بعد كل هذا العمر؟ تكاد تكون سهام الوحيدة التي تحرص على مجالستها كل أسبوع في المشفى الذي أقعدها أولادها فيه بعد إصابتها بمرض الزهايمر. حاولنا المستحيل لنقلها لتعيش معنا، لكن أولادها يرفضون خروجها من المصحة.
أنظر إلى الأنامل الرقيقة وهي تجري على الورق. زوجتي أفضل هبة منحها الله لي. زمان... ضحك الناس عليَّ عندما تقدمت لها. أرغى الوالد رحمه الله وأزبد، وغضبت الوالدة، وبكت رباب، وتدخل الكثيرون ليصرفوني عما كنت مقبلاً عليه. البلدة تغصُّ بالبنات... كيف لم تحلُ لي سوى مجهولة النسب التي نفر منها العرسان؟
سهام وقتها كانت البنت الوحيدة التي التحقت بالمدرسة. مديرة الخيرية الفرنسية التي نشأت فيها انتبهت لنباهتها وأصرت على التحاقها بالمدرسة بجانب الفتية القليلين الذين قَبل أهلُهم تسجيلهم فيها. لم يكن أحد يعرف لها أباً ولا أماً. لفتت انتباهي أثناء مرورها في طريقها إلى المدرسة أمام الورشة. وتعلق قلبي بها.
تزوجتها، ولاقت الويل في بيتنا وصبرت. وحفظت لها ذلك.
سنوات والوالدان يلحان عليَّ لأطلقها. أصلها مجهول، تربيتها أجنبية، خصوبتها منعدمة... اقترحت عليَّ الوالدة أن أتزوج عليها. لا يمكن أن أعيش دون أولاد. لكنني رفضت. سهام ملأت دنياي حباً وطيبة. لا حاجة لي بغيرها. لا رغبة لي في العيش دونها.
ثلاث وأربعون سنة ونحن نقتسم الحلو والمر. تزوجت رباب وانشغلت ببيتها، مات الوالدان، وتفرق الأهل والمعارف، وبقينا معاً، نعيش من خير الورشة، أعجن الطين المحروق وأدير القرص الدوار لأشكل الجرار والأباريق والصحون وآنية الزينة وأصص الزراعة، وأعرض مشغولاتي للبيع وأترك زوجتي تتكفل بتسجيل الفواتير وحساب المداخيل وتغطية المصاريف وتنفيذ كل ما يخص مكتبيات المحل.
أنظر إليها وقلبي يخفق بحب تقوى بمرور السنوات.
يتوقف القلم لحظة، وأحدِّق في الأشكال الأنيقة التي رسمتها على السطور والتي لا أفقه فيها شيئاً.
ترفع رأسها وتلتقي عينانا وتبتسم برقة ووجهها يشرق كالشمس. وأهز رأسي برضا والزهو يملأني.
إنها تحبني.
لا أعرف الكتابة ولا القراءة.
لم أذهب للمدرسة يوماً... ولكنها تحبني.