«ما رأيك؟ أنت تحلق الآن عالياً كما تريد... هاه؟» سألني ابن عمي سامي.
«نقف» معاً في مرصد الأمبايرستيت، في الطبقة الثانية بعد المائة، في المبنى النيويوركي الشهير. أمامنا منظر بانورامي مذهل للمدينة. سامي يحك فروة رأسه الحليق بارتباك. أتعجب دائماً من تناقضات هذا الرجل. أرفع رأسي للسماء وأشعر فعلاً بأنني أحلق عالياً... عالياً...
زمان، عندما كنا صغاراً، كانت والدتي وزوجة عمي تأخذانا إلى المتنزه القريب من بنايتنا. كبرنا في شقتين متلاصقتين. وكنا كالإخوة، وربما أكثر.
سامي يكبرني بعامين. كنا شغوفين معاً بلعبة قفص الدجاج، تلك المجسمات المصنوعة من أعمدة حديدية ملونة مشبوكة على شكل مربعات ممتدة بين الأشجار. أرضيتها الرملية كانت تخفف صدمة وقوعنا عندما تنفلت سيقاننا بين الخواءات. أمي لم تكن تحبذ لعبنا هناك، لكن زوجة عمي كانت تنهرها وتشجعنا على الانطلاق للأعلى. وسامي كان دائماً يغلبني ويصل قبلي إلى أعلى القفص، ويقف هناك ماداً ذراعيه للسماء وضارباً بها فوق صدره مقلداً صيحة طرزان الشهيرة، وأنا كنت ألحق به وأصيح بدوري، وأمي تصرخ وتستحثني لأنزل على الفور، وزوجة عمي تضحك وتشجعنا...
ذكريات...
«انظر هناك... إنهم يبنون ناطحة سحاب أخرى...» قال سامي، وحولت نظري حيث أشار وتنهدت.
«كان بإمكانك أن تكون هناك....من يدري...لطالما كنت متفوقاً للغاية في دراستك...»
«وها أنت ترى النتيجة...» أجبته بوجوم، ودار حول نفسه وعاد يحك رأسه ويقول: «اسمع يا صاحبي... إنها أقدار. من كان يتصور بأن أهجر كل شيء... وأصير شخصاً آخر...»
سامي رحل إلى أمريكا أول ما أنهى تعليمه الثانوي. والداه لم يتقبلا أبداً ما قام به. تابع دراسته العليا في فرجينيا، وارتبط بزميلة أمريكية وأنشأ أسرة وحصل على الجنسية الأمريكية وعمل في مجال لم يتخيله أحد.
«كيف تشعر هناك؟ «سألته» ألا يغلبك الضيق؟ لا أتصور نفسي مسجوناً في صندوق»
ضحك لأول مرة منذ صعودنا الى المرصد. لم أعد أعرفه. أين ولعه القديم بتسلق الأعالي؟
«أضيق؟ لا... بالعكس. أحس بالنشوة ونحن نغوص في الأعماق ونستكشف أغواراً لم يرها أحد...»
سامي مهندس في غواصة عسكرية أمريكية. وأنا...
«أتعرف يا صاحبي لولا نشوفية دماغك لكنت شخصا آخر، ولحققت أموراً أعجز عنها»
تنبأ لي الجميع بمستقبل باهر. تفوقي في العلوم كان يقودني إلى قدر مشرف. بدأت أدرس الهندسة المعمارية، ولكنني لم ألبث أن تركت الجامعة. برمجة الدروس والامتحانات أشعرتني بالضجر. عملت لبعض الوقت في مكتب محاسبة، ثم لم ألبث أن قررت أن أعود لحبي الأول.
تسلق الأعالي.
اشتغلت كعامل بناء في إحدى الورش الضخمة وسط المدينة. طلبت أن يلحقوني بعمال الطبقات العليا، وشعرت بنفسي أعود لطفولتي وأنا أتحرك بين الأعمدة الحديدية المشبوكة على ارتفاع عال، أنقل مواد البناء وأتفقد الرفوف الإسمنتية المنفتحة على السماء.
عمل أسعدني وملأ كياني رضا وحماسة. إلى أن وقعت الكارثة.
«وإذن... كيف تشعر هذه الأيام؟ أريدك بمعنويات مرتفعة. لقد تم تأكيد موعد العملية. لكنني لا أدري إن كنت أستطيع البقاء بجانبك»
جئت مع عمي وزوج أختي إلى نيويورك منذ ثلاثة أسابيع. سامي استقبلنا ووضع شقته تحت تصرفنا. إجازته ستنتهي قريباً، وظروف عمله قد لا تسمح له بتتبع وضعي الصحي.
«لا تقلق. ضحيت معي بما يكفي ويزيد»
لا أدري كيف حدث الأمر. وجدت نفسي في رمشة عين أسقط كورقة شجر من أعلى المبنى الذي كنا نشتغل فيه. اصطدم ظهرى بعمود حديدي خفف من وقعتي وحول اتجاهي نحو شبكة معدنية لتصفية الرمل أنقذت حياتي.
دزينة عمليات في المغرب وفرنسا لم تفلح في إعادتي كما كنت. سامي هو من أرسل في طلبي وهيأ لي فرصة الخضوع لعملية أخرى دقيقة، هنا في نيويورك.
«هل نذهب؟ بدأت أحس بالجوع... أريدك أن تتذوق فطائر زبدة الفستق هنا. ستعض أصابعك عليها عندما تعود إلى المغرب»
ضحكت وأنا أنظر للعملاق البدين الذي تحول إليه رفيق طفولتي النحيل.
«لا، شكراً... أترك لك طعامك الأمريكي. لا أدري إن كان مقعدي سيتسع لكيلوات زائدة»
وجم سامي وتنهد بألم وهو يتقدم ليدفع بي الكرسي المتحرك.
فقدت الإحساس بنصفي السفلي منذ عامين.
نظرت إلى السماء، وفكرت بأن الحياة غريبة حقاً. أنا الذي طالما حلمت بالصعود للأعلى صرت حبيس مقعدي الحديدي المتحرك، وابن عمي الذي كان يشاطرني نفس الحلم صار حبيس غواصته العسكرية الحديدية.
في النهاية، مصيرنا واحد.
كلانا سجينان.