منذ مدة وأنا أقمعها، تلك الرغبة الجامحة في قلب كل شيء، وخلع عباءة الدماثة التي ألبسها منذ.. منذ متى بالتحديد؟ لا أدري.. منذ وعيت..
هناك أمور يصعب على الكلمات شرحها، فاض بي الكيل، لم أعد أتحمل نفسي، أنا.. الشاب الثلاثيني الوديع، المهندس المعماري الذي يعمل في شركة يتقاتل أقرانه للفوز بوظيفة فيها، العازب الذي تواصل عائلته البحث عن شريكة حياة تليق به، لم أعد أرى في كل هذا ما يثير حماسي، قرفت، وصرت أبحث عن متنفس يشعرني بأنني أحيا وأفعل ما أريد.
بدأت ثورتي بأمور صغيرة، لم أعد أكترث بهندامي، لِم ربطات العنق المقيتة وتسريحة الشعر الخلفية وعطر الصباح الغالي؟ ما هي إن كنت أبدو كعارض أزياء قفز للتو من مجلة موضة أو كإنسان عادي غادر بمزاج سيئ سريره ورمى نفسه بامتعاض في زحام الترام الصباحي؛ للالتحاق بوظيفة لم تعد تحرك شيئاً فيه؟ في البدايات كنت أحلم بمشاريع ضخمة أشرف عليها، وجولات ميدانية أراقب خلالها سير أعمال المنشآت التي أصممها. أحلامي لم تحقق، وعملي الذي يدر عليّ الكثير من المال، يجب ألا أكون جاحداً، يتلخص في مهمات مكتبية مضجرة لا تتعدى تحرير مذكرات ومراجعة تقارير وحضور اجتماعات إدارية روتينية.
مديرة الشركة طلبت رؤيتي إثر أحد هذه اللقاءات، وعلقت سلباً على شكل هندامي ورائحة العرق التي تنبعث من جسمي، تدخلها في خصوصياتي أثار استهزائي، ووجدتني أبتسم بتهكم وأنا أتطلع إليها بفضول، أأكون حركت مشاعر مديرتي الأربعينية العانس دون أن أدري؟ رائحة عرقي.. متى تسنى لها الاقتراب مني وشم ما ينبعث من جسدي..؟
لعلها قرأت ما يدور في خَلدي؛ لأنها زمت شفتيها بغضب وطلبت مني وهي تنهي اللقاء، أن أعيد التفكير في شكل هندامي؛ لأن الصورة التي أبدو فيها لا تعكس رقي الشركة ولا فخامة ما تقدمه من خدمات.
لم أفعل ما طلبته، ولم أفاجأ عندما وصلني أمر بتغيير مكتبي.
انتقلت إلى الجهة الخلفية من المبنى، وبدأت أمضي أوقات الفراغ بين عمل وآخر في البحث عن وظيفة تسمح لي بمغادرة المكتب والعمل في الميدان، بحثي لم يطل، وأيامي في الشركة التي طالما تفاخر والداي بها، صارت معدودة.
لم أنقل البشرى «السارة» لهما، ما نالهما من ثورتي الجديدة يكفي في الوقت الحاضر.
رفضتُ حضور وليمة العشاء التي أقاماها على شرف عائلة أحد أصحاب والدي، وبالتحديد على شرف ابنة الرجل، التي يُفترض أن تقدم لي، وطلبت من والدتي أن تتوقف عن البحث عن عروس لي، لست مهتماً، ولن أزج بنفسي في زواج لا يعنيني، فقط لإرضاء رغبتها هي والوالد، عندما أعثر أنا، وليس غيري، على شريكة حياة ترضيني، سأتزوج بها، وفي الوقت الحاضر لا أفكر في الأمر، ولن أسمح لأحد بأن يقيد حريتي.
الشرخ الذي أحدثتُه في علاقتي بعائلتي سرني أيما سرور، بدأت أشعر بأنني أتحرر من قيود لم أعد أطيقها.
واصلت ثوراتي الصغيرة، وأغلقت باب شقتي في وجه الكثيرين ممن تعودوا على زيارتي في أي وقت بمناسبة وبغير مناسبة، من يريد رؤيتي عليه الاتصال بي أولاً.
توقفت عن المشي على رؤوس أصابعي خشية إزعاج جيراني، هم لا يترددون في رفع صوت التلفاز والصراخ على الأطفال، ودعوة الأصحاب لعشاءات صاخبة دون التفكير في راحتي.
أوقفت اشتراكي الشهري في صالة الرياضة الأنيقة التي يتردد عليها ثلة من الشباب العامل مثلي في شركات تشدد على أهمية كمال أجسام موظفيها، وتسجلت في نادي الملاكمة الذي طالما حلمت به، لتذهب إلى الجحيم تحذيرات عائلتي من لكمة على الوجه تحولني إلى مسخ لا يرضى أحد بالنظر إليه.
تغيرت.. ولم أعد أتأثر بما يقال لي أو يقال عني.
خرجت من قوقعتي وصرت أنا.. بعيوبي ومحاسني، أنا.. وليس الآخر الذي يريدني الناس أن أكونه.
تغيرت حقاً.. وبدأت أشعر بأنني أعيش.