العمل في وكالة سفر متعب، ومحبط، ومنهك للأعصاب. فأنت تتواصل طيلة النهار مع أشخاص يستعدون لقضاء إجازاتهم في أماكن خلابة. الوجهة غير مهمة في الحقيقة، الأهم أنهم يحظون بأسابيع راحة، يغيرون فيها الجو، ويستجمون، وينامون ما طاب لهم، ولا يتابعون بدوام يومي ثقيل تتكرر فيه نفس المسؤوليات.
أستقبل الزبائن طيلة النهار، أرد على تليفوناتهم، أبتسم لهم وأجيب عن أسئلتهم، وأمدهم بكل المعلومات التي يحتاجون إليها، وأتابع مراحل رحلاتهم، وكأنهم أفراد عائلتي الذين أتحمل مسؤولياتهم وأضمن أمانهم. أنا الذي لا أملك عائلة أهرع إليها في نهاية النهار، وأنسى بين أحضانها ثقل الوظيفة وهموم الزبائن.
أعيش منذ تركت الملجأ الخيري وحدي. أنا لقيط. لا يحزنني ذكر ذلك بقدر ما يحز في نفسي النفور الذي أقرؤه في عيون الناس عندما يعلمون بظروفي. لست مسؤولاً عن الطريقة التي جئت بها إلى هذا العالم. إنه حدث وقع، وكفى. لكن حرص البشر على النبش في هذه الأمور يشعرني بأنني شخص غير مرغوب فيه في أي مكان.
وظيفتي هذه حصلت عليها بالمصادفة. دبلوم المحاسبة الذي أحمله لم يوفر لي سريعاً الشغل كما كنت أظن. صحيح، الكل يشكو من البطالة هذه الأيام. ولكن الأمر يصبح قدراً محتوماً عندما تحاول أن تجد لك موطئ قدم في عالم الشغل، وأنت لا تملك معارف ولا أهلاً يدعمونك ولو بالدعاء.
تسكعت طويلاً في الطرقات قبل أن أقع ضحية حادث سير. كنت حينها في طريقي إلى عربة ساندويتشات تعودت على تناول وجباتي فيها. صدمتني دراجة نارية وأنا أجتاز الطريق، وتحلق المارة حولي.
بكى الفتى صاحب الدراجة. كان صبياً يافعاً. منعت الناس من طلب الشرطة، وقمت أتحامل على بعضي، وتركته يصحبني إلى الفندق الرخيص الذي أقيم فيه لأنني كنت أعرج قليلاً. في صباح اليوم التالي فوجئت به ووالده يدقان باب غرفتي ويعرضان عليّ أخذي إلى المستشفى. لم تكن إصابتي بليغة. سأل الأب عن أحوالي، ووعد بأن يساعدني في العثور على عمل، ووفى بوعده بعد أيام.
هكذا وجدتني أشتغل منذ أكثر من خمس سنوات في وكالة السفر الصغيرة هذه.
رب العمل لا يفكر في منحي إجازة، وأنا لا أجرؤ على طلب ذلك خشية أن أغضبه وأخسر وظيفتي. زميلاي، سكرتيرة وموظف ثان ملحق بمكتب المدير، يسخران من جبني وينكتان به كلما سنحت الفرصة لهما. ولا يهمني... وإن كنت فعلاً أتوق لأن أذهب بضعة أيام إلى مكان ما في الطبيعة، بعيداً عن الناس وعن ضجيج المدينة، أصطاد السمك، أو أراقب أصناف الطيور.
أعتقد بأنها أمور ستروق لي. مرة رأيت حوض سمك في واجهة محل للحيوانات الأليفة، وكدت أدخل لأسأل عن ثمنه. السمكة الحمراء الصغيرة التي كانت تسبح فيه أثارت إعجابي. كم سأسعد بمحادثتها، عوض قضاء أمسياتي أمام برامج التلفزيون الكئيبة... لكنني لم أفعل. ولا أدري لماذا...
هذا الصباح، وأنا أرد على اتصال سيدة تريد أن تحجز مكانها في رحلة سياحية إلى وسط البلاد، لم أكف عن التفكير في السمكة الحمراء الصغيرة. هل أجرؤ على شرائها...؟ هل أستطيع أن أتعايش مع كائن آخر...؟ الأمر سخيف لكنني تعودت على وحدتي... من زمان وأنا لا أحظى سوى بصحبة نفسي...
حبست أنفاسي وأنا أسمع صوت الزبونة يرتفع بحدة وهي تصرخ: «ألا تسمع؟ لم لا ترد عليّ؟ هل أنا مجبرة على تكرار نفس السؤال عشر مرات لأحصل على إجابة؟ أريد أن أعرف كيف سيكون الطقس بعد شهرين في غابات الشمال؟ لا أود أن أقضي إجازتي في جو مضطرب...».
ضحكت السكرتيرة ونادت الموظف الآخر لتعلمه بما يحدث.
اعتذرت للزبونة وحاولت أن أفهمها باستحالة إجابتي عن سؤالها. وجاء زميلاي يسخران مني ويقولان: «كان عليك أن تطلب منها أن تصبر لحظة ريثما ترى الطقس في بلورتك السحرية... يا لك من جبان...».
بقيت عبارتهما الأخيرة ترن في أذني وأنا أغادر المكتب.
وكرد فعل لم أكن أتخيل نفسي قادراً عليه، غيّرت وجهتي وقصدت محل الحيوانات الأليفة، ولم أرمش وأنا أخرج محفظتي وأدفع كل ما فيها للبائع وأحمل حوض السمك الصغير إلى شقتي.
لم أنم الليلة. بقيت أناجي السمكة وأبثها حزني وكآبتي. هل كتب عليّ أن أقضي حياتي بين أربعة جدران، هنا في الغرفة وهناك في المكتب...؟ لكم سأسعد أن أتيحت لي فرصة الهرب إلى مكان فسيح، بعيد عن ضجيج الناس، والمدن، والحضارة.
«لا تقلقي...» همست لسمكتي... «سآخذك معي... ومن يدري... قد تجدين بعض الرفقة هناك... في البراري...».
لم يتسن لأي منا أن يختبر حلمي هذا.
خروجي لقضاء حاجة في ردهة الفندق صباح اليوم التالي كان كافياً لأن يحوّله إلى كابوس.
إحدى القطط التي تجول بحرية حول الفندق استغلت غفلتي عن إغلاق الشرفة، وتسللت إلى الغرفة، وانقضت على السمكة المسكينة وافترستها.
دخلت لأجد القطة تحوم حول الحوض الذي انسكب ماؤه على المنضدة.
بلعت صرختي داخلي وقد فاضت عيناي بدموع القهر والإحباط.