كانت تلك آخر مرة أراها فيها.
تطلعت إليّ من تحت الكتاب الذي كانت تحتمي به من أشعة شمس الصباح الصيفية، وابتسمت بمرح وأكدت لي: «هيا.. صديقاتك بانتظارك.. اطمئني.. كل شيء على ما يرام.. لا تقلقي..».
حاولت أن أقنعها بكل الطرق بأن ترافقني إلى المدينة، سميرة وخولة وإبتهاج سيرحبن بها، ويتعلقن بها.. كما فعلت.
«أنت متأكدة؟ أخاف أن أتركك وحيدة هنا، المكان منعزل..».
ضحكتْ وشبكت قدميها خلفها والكتاب يحمي وجهها المشرق، كانت رواية بوليسية عثرت عليها في مكتبة أخي، بدأت قراءتها منذ يومين بعد أن ركنت كتب المقرر جانباً، «إنه جنون..»، قالت لي حينها، «الصيف للاستجمام وليس للمذاكرة، لن أكسر دماغي بمدونات القانون قبل انتهاء الإجازة، لماذا جلبتها معي..»، ولماذا لم تأخذ إحدى قبعاتي لتحتمي من الشمس..؟ عاتبتها وهزت كتفيها برقة طفولية.
ابتسمتُ وودعتها وأنا أحث الخطا نحو سيارتي، الجو رائع والبحر يغري بالسباحة، ولكن صاحباتي ينتظرنني،
لمحتها في المرآة تعود لمطالعة روايتها، وهي مستلقية على بطنها فوق المنشفة التي رمتها على الرمل، يجب أن ألقي نظرة على تلك القصة بعد انتهائها منها، لم أطالع كتاباً منذ زمن، وجيهان شوقتني للعودة إلى متعة القراءة،
جيهان ابنتي الروحية التي لم أرزق بها.
انخرطت في الطريق الملتوي الذي يربط فيلا أخي القابعة في المرتفعات الشاطئية بالمدينة، تعودت على قضاء بعض إجازاتي بها، عندما يأخذ أخي عائلته خارج البلاد ويتلفن لي لأملأ المكان، لم يعثر بعد على شخص يتولى حراسة بيته أثناء غيابه.
لم أر سميرة وخولة وإبتهاج منذ سنتين، وربما أكثر، في كل مرة آتي فيها إلى المنطقة، تكون كل منهن منشغلة في مكان آخر، نحن رفيقات دراسة وصداقتنا قديمة قدم عهدنا بمقاعد الثانوية.
نظرت لساعتي وأنا أنطلق بالسيارة بين المنعطفات المظللة بصف كثيف من أشجار الأوكالبتوس، تأخرت، بسبب جيهان، قضيت وقتاً طويلاً في محاولة إقناعها بمرافقتي، لست مطمئنة لبقائها وحدها في الفيلا، طيلة اليوم، ولكنها عنيدة.
رنة هاتفي الجديدة فاجأتني، البنات يستعجلن حضوري، ابتسمت وأنا أتذكر إصرار جيهان على تغيير الكثير من الأشياء في روتيني اليومي.. بدءاً من رنات الهاتف.
تعرفت عليها بالصدفة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، نشرت صورة لفيلا أخي وأخبرت متتبعيّ بأنني سأطير لأقضي إجازة خمس نجوم في مكان خلاب، تلقيت الكثير من التعليقات المتحمسة، وشرحت بمرح أن الفيلا تخص شخصاً بالغ الثراء، لم أكن أكذب؛ فأخي الذي يدير وكالة سفر تدر عليه الكثير من المال، يعيش في رفاهية حقيقية، علقت جيهان بمرح، ورددت عليها، وتواصل حديثنا بعد ذلك طويلاً.
علمت بأنها تستعد لدخول الجامعة وتقطن في مكان قريب من المدينة التي سأقضي إجازتي بها، سألتني إن كان من الممكن أن نشرب قهوة معاً؛ لأنها تود التعرف إليّ أكثر.
التقينا، مرة واثنتين وثلاثاً.. وعلمت منها بأنها تقيم عند بعض الأقارب، وأن عائلتها تعيش في بلدة بعيدة في الجنوب، «الأمور صعبة بعض الشيء..»، اعترفت لي، «أقاربنا يستقبلونني لحين افتتاح السكن الجامعي، وضعيتهم المادية متواضعة وأنا أشكل عبئاً عليهم...».
لم أتردد في دعوتها للإقامة معي، أنا هنا لحين انتهاء الإجازة الصيفية.. ولن أرفض بالتأكيد بعض الرفقة،
جيهان تذكرني بذلك الجانب الذي لم أفلح في تحقيقه في الحياة.
لدي عمل جيد وسكن خاص واستقلالية تحسدني عليها الكثيرات.. ولكنني لم أعثر على شريك حياة يقنعني ببناء أسرة وإنجاب أولاد، أنا في نهاية الأربعينات، وجيهان.. بسنواتها الثماني عشرة، بمرحها الشبابي، وحماسها الطفولي، تمثل لي البنت التي لم أنجبها، والتي طالما حلمت بها.
التقيت صاحباتي وارتمينا في أحضان بعضنا ونحن نضحك ونمزح ونتبادل الأخبار والقفشات، ذهبنا للغداء في أحد مطاعم المركز التجاري، وبعد ذلك انخرطنا في جولة تسوق جنونية، اشتريت خلالها الكثير من الأشياء لجيهان، صاحباتي لم يتوقفن عن معاتبتي لأنني لم أحضرها معي، ووعدتهن بأن أعرفهن بها في أقرب وقت،
قضينا فترة بعد الظهر في مركز التجميل، استسلمنا لأيدي الخبيرات بالعناية بالشعر والبشرة، وخضعنا لجلسة تدليك رائعة، وغادرنا المكان ونحن نشعر بأنفسنا وكأننا نطير، واصلنا تجوالنا ولم نفترق إلا بعد أن بدأت تظلم،
انطلقت بالسيارة نحو الفيلا وشعور غامر بالذنب يتملكني.
تبادلتُ وجيهان بعض المسجات، لكنني أهملتها طيلة اليوم، كان يفترض أن أضغط عليها أكثر لأجعلها ترافقني،
لا يليق أن أتركها وحدها هناك كل هذه الساعات.
وصلت إلى الفيلا وقد أظلمت تماماً، لم أر نوراً في المكان، معقول أن تكون قد نامت ولم تنتظرني..؟ دفعت الباب وأنرت المكان، وتسمرت مكاني والهلع يتملكني.
أين الصالون؟ أين الأثاث؟ تجولت برعب بين الغرف وأنا أناديها، لا أثر لها، لا أثر لقطع الموبيليا الفاخرة والأجهزة المكلفة التي تؤثث فيلا أخي.
اتصلت بالشرطة وأنا أرتجف، كان ذلك آخر يوم رأيتها فيه، جيهان.. لصة المنازل المطلوبة من الأمن منذ سنوات.