اتصال الطبيب كان مفاجئًا.. ومرعبًا.
وجدت نفسي أبعد الهاتف، وأنظر حولي بذهول، وأعض الجهاز الصغير بانفعال عوض أن أقضم شطيرة الخبز والمربى التي كنت أتناولها على مائدة الفطور. أختي الكبرى انفجرت ضاحكة، وأمي صاحت تحذرني بعد فوات الأوان: «أسنانك يا غبية.. ستحطمينها.. هل نسيتِ ما قاله الدكتور؟».
وكيف أنسى؟ وكيف ينسى هو أيضًا؟ ارتجاج في الفك، يجب أن أنتبه لأسناني، وكدمة في عظم الساق، وخدوش صغيرة.
عم يتحدث الآن..؟
أمسكت رأسي بين يديّ، وشعرت بالدنيا تدور من حولي.
منذ أسبوع تعرضت لحادثة سير، ارتميت أرضًا لأتجنب شاحنة لعينة فقد سائقها السيطرة على مكابحها، وانتهى، لحسن حظه، بالزج بها في سياج حديقة خفف من سرعتها وقلل من آثار الصدمة، لم يصب السائق بأذى، كنت الضحية الوحيدة؛ إذ فقدت وعيي إثر اصطدامي بحافة الرصيف الحادة، وحين فتحت عيني في قسم المستعجلات بالمستشفى، وجدت الطبيب يتفقدني ويقول إن الأمر بسيط، أخبرته وأنا ألمس فكي بأنني أشعر بألم شديد في أسناني وكتفي وساقي، طلب من الممرض أن يأخذ لي صور أشعة، وخرج.
اتصلت بأمي، وبقيت بضع ساعات تحت المراقبة، عاد الطبيب وأخبرني بأن كل شيء على ما يرام، وأن عليّ فقط أن أنتبه في اليومين القادمين لأسناني وساقي وكتفي، ولا أقلق؛ إذ قد يستمر الشعور بالألم بعض الوقت، ساعدني لأقوم، ولم أستطع أن أقف على رجلي التي تلقت الضربة، لكنه شجعني، وقال إن عليّ، على العكس، أن أحاول أن أتحرك بها حتى تلين ويعود كل شيء إلى طبيعته.
أسبوع مر وأنا أبلع المسكنات صباح مساء لأخفف آلام ساقي، كتفي بخير، وكذلك فكي، لكن عظمة ساقي تسمم عيشتي، ألمها لا يتوقف، والمشي عليها عذاب ما بعده عذاب، وأنا مضطرة للعرج بها، أو الاتكاء على عصا طيلة الوقت، وها هو الآن.. حضرته.. يتصل ويسألني.. كيف هي حالي مع الجبس.
أي جبس؟ هل نسي أنه قال إن ساقي بخير؟
تنهدت بيأس وبلعت رعبي وأخبرت أمي بما كان، وقفزت مكانها وهي ترغي وتزبد: «سأفضحه.. سألوي عنقه إن حدث لساقك مكروه.. سأحطم المستشفى فوق رأسه، هيا... تعالي..».
أخذتني إلى المستشفى حيث «استلمني» الطبيب على الفور، وتجاهل سيل الوعيد والتهديد الذي أمطرته أمي به.
تم إخضاعي لصور أشعة جديدة، وجاء الطبيب ومعه الممرض الذي تولى أمري في المرة الماضية، وشرح لنا ما حدث «وقع خطأ ما، والصور التي تفحصها منذ أسبوع كانت لشخص آخر، لديّ شق في عظمة الساق، وللأسف، وبمقارنة صور أشعة الأسبوع الماضي والصور الحالية تبين أن الشق قد اتسع كثيرًا بسبب مشيي بساقي أو عرجي بها، والنتيجة أنه لا يمكن والحال هذه أن يوضع جبس للساق، عليّ أن أخضع لعملية جراحية».
ولولت أمي فيما بقيت ذاهلة لا أعرف كيف أتصرف.. عملية؟ لم أخضع لعملية من قبل.. هل ستنجح؟ هل سأتألم؟ هل ستعود ساقي كما كانت؟ ودراستي؟ والامتحانات..؟ و.. مصاريف المستشفى؟
لن ندفع شيئًا، طمأننا الطبيب، العملية روتينية، وساقي ستشفى، وكل شيء سيكون على ما يرام..
لم تتوقف أمي عن الصراخ، سترفع دعوى ضد الطبيب وضد المستشفى، وستقلب الدنيا على رأس الجميع، ولن تتنازل عن حقي وحق ساقي، وسيرون..
أغلقت عيني، وأرحت رأسي على ظهر سرير المستشفى، وتثاءبت بتثاقل، شعرت عندها بوخز في فكي، وتذكرت الهاتف الذي عضضته بعنف على مائدة الفطور وأنا أظنه شطيرة خبز، ووجدت نفسي أبكي وأضحك في نفس الوقت، وقد فقدت صوابي تمامًا. .