لم يطل مُقامه في العاصمة، برنامجه الدعائي كان ثقيلاً جدًا، لقاءات صحفية وأمسيات ثقافية ووجبات عمل وتوقيعات، أنهى التزاماته، وجمع أغراضه وأوصى وكيل أعماله للمرة الألف بأن ينساه تمامًا، وينسى وجوده على وجه الأرض.. إن كان يريد المزيد من اللوحات.
استقل القطار وهرب إلى ذلك الركن القصي في الشمال، يشعر في كل مرة يضطر فيها لافتتاح معارضه بكثير من القنوط والامتعاض، يكره المناسبات العامة.
كل هذه المظاهر تثير اشمئزازه، لا يرسم لهذا.. لا يرغب في شهرة ولا مال ولا اعتراف من أحد، لكنها دوامة وجد نفسه فيها ولا يدري كيف يتخلص منها، ويعود كما كان.. ذلك الشاب الحالم المنعزل الذي يعيش بعيدًا عن صخب الدنيا وضجيج الحضارة.
ركب الحافلة ليتنقل من طنجة إلى قريته النائية.
نزل في محطته المعتادة، قرب عمود يحمل يافطة تشير إلى أن قريته تبعد خمسة كيلومترات عن موقف الحافلة.
من الجنون قطع المسافة مشيًا، لكنه يفعل ذلك كل مرة، يقف هنا، ينظر إلى البحر الرائع في سكونه، وهياجه، يخلع حذاءه ويغوص بقدميه في الرمل ويمشي، يمشي حتى يبلغ مشارف القرية، ليس ثمة ما يسعده أكثر من هذا.
ويمر الوقت سريعًا.. ويجد نفسه على مشارف قريته؛ حيث كوخ جدته المغطى بالنباتات المتسلقة، على أكمة تطل على البحر.
يقيم هناك منذ أن وعى، منذ أن استلمته المرأة العجوز طفلاً صغيرًا ضعيف البنية، كثير العلل، بعد وفاة والديه في حادث أليم.
يقيم هناك وحده.. بعد أن توفيت الجدة، وترك المدرسة، وانعزل عن الناس.
يصعد الأكمة بصعوبة وأنفاسه تتقطع، قلبه الضعيف لا يتحمل أي جهد.
يقف على رأس الأكمة بعد أن يصل، يستعيد قواه، وينظر إلى البحر، فوجئ بها في هذا اليوم الغائم.
حورية رشيقة ترقص فوق الماء، وتضحك، وشعرها الطويل يطير حولها.
دق قلبه من جديد، دق بشدة مؤلمة، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يهوي، بلا حول ولا قوة.
هي مزقت المظروف الذي قدمته لها العائلة، تعبت من إلحاحهم، ما بها.. خمس وثلاثون سنة؟ ما لهم لا يتركونها تعيش حياتها بسلام؟
لم تعد ترغب في الاحتفال بأعياد ميلادها، أخبرتهم بذلك.. ولكنهم يصرون.
فاجأوها حين عادت من العمل بعشاء فاخر في الصالون الذي لا يفتح إلا في المناسبات الخاصة، كان هناك والداها، وأخوها الأكبر وزوجته وأولاده، وأخواتها الثلاث الأصغر منها، وأزواجهن وأولادهن، والخالات والعمات والأعمام وأولادهم، وكان هناك أيضًا قالب حلوى ضخم، على رأسه مجسم عروس تحضن علامة استفهام كبيرة، فكرة سخيفة، وجارحة، من صاحبها؟ لا تدري.. لكنها قلبت مزاجها واغرورقت الدموع في عينيها.
وكما توقعت.. سرعان ما تحولت الحفلة إلى محاكمة قاسية وضعتها في قفص الاتهام، ماذا تنتظر؟ لم تعد صغيرة، لماذا ترفض كل من يتقدم لها؟ هل تظن شبابها سيدوم؟ هل تظن أن عملها سيعوضها عن الزوج والأولاد؟
لم تقل شيئًا، لِم لا يدعونها وشأنها؟
الهدية التي شاركوا جميعًا في دفع ثمنها كانت مكلفة: رحلة بحرية حول أوروبا، ضمن فوج من الرجال والنساء المحترمين الذين فاتهم قطار الزواج، رحلة للعثور على شريك الحياة المنشود ضمن الفوج إياه.
صفعة حقيقية.
مزقت بطاقة الرحلة، وأوراق السفر، وجمعت بعض أغراضها، وتركت رسالة قصيرة على سريرها، وانطلقت بسيارتها نحو المحطة.
ستتصل بمكتبها فيما بعد، تستطيع مواصلة عملها في الترجمة عبر البريد الإلكتروني.
اشترت بطاقة القطار الذي كان يتهيأ للتحرك، وانطلقت نحو المجهول.
تحتاج لهذه الفسحة لتتنفس، وتغضب على راحتها، وتبكي، وتفعل ما تريد.
كيف انتهت رحلتها على هذا الشاطئ؟ لا تدري، ركبت أول حافلة صادفتها، وانطلقت.
القرية الصغيرة التي حطت رحالها بها لا تتوفر على فندق، لكن الناس دلوها على سيدة تعيش وحدها، وأخبروها أنه بإمكانها أن تستأجر إحدى غرفها.
وضعت حقيبتها في بيت المرأة، وانطلقت تجوب أزقة القرية، وتنزل إلى الشاطئ.
بللت قدميها بالماء وأخذت تلهو كالطفلة، تقفز، ترقص، وتضحك وكأن أحدًا يدغدغها.. دارت حول نفسها ونظرت حولها ولمحته هناك.. يراقبها من أعلى الأكمة.
تحركت نحوه، وبدأت تصعد الطريق المنعرج، ومد يديه إلى صدره دون أن يتحرك من مكانه، ووقع أرضًا.
جرت إليه، وجثت تبعد وجهه عن التراب وتمسحه وتربت على خديه.
فتح عينيه، ونظر إليها، وابتسم.
سألته إن كان بخير، وهز رأسه مطمئنًا، وابتسمت هي الأخرى.
ولفهما صمت جميل.