منذ ساعات وهو ينتظر في الظلام، يمكن لشهاب أن يغادر المكان في أية لحظة؛ فهي تنتظره، يعرفها جيدًا، لا يمكن أن يغمض لها جفن ما لم يعد، قلقها الطفولي وحنانها المتدفق، دفعاه مرات عديدة لمغادرة اجتماعاته من أجل أن يهرع إليها ويطمئنها...
زمان...
حدث ذلك زمان... قبل أن تتغير أشياء كثيرة.
ظلت تمطر منذ الصباح، ستار الرذاذ الرقيق يحجب عنه الرؤية بشكل واضح، يرغب في الاقتراب من المبنى ولكنه يخشى أن يثير شكوك حارس العمارة الذي يقبع في مكان ما، وشهاب، إن لمح سيارته، يمكن أن يقوم بردة فعل لا تخدم خطته.
يدرك أكثر من أي شخص آخر، كمَّ الضغينة والحقد الذي يكنه له...
أحكم قبضتيه على المقود وهو يفكر في الأمر، ليس من السهل على المرء أن يقرر الإقدام على ما خطط له، ولكن، ليس من المنطقي ولا من المقبول أن يبلع رجل مثله الإهانة التي لحقت به، لم يتعود على أن يخفض رأسه عندما يصفعه الآخرون، ساعات وهو ينتظر لحظة الحسم في البرد والظلام والمطر، اللعينان، لم يراعيا العشرة ولا الثقة ولا ملح الطعام الذي تقاسمه معهما، نصبا الفخ وتركاه يقع فيه دون رحمة ولا تأنيب ضمير، يحاول أن يتذكر اللحظة التي بدأت علاقته بزوجته تسوء فيها دون جدوى، لم يكن ثمة طارئ يبرر انقلاب حياتهما فجأة من النقيض إلى النقيض...
طلبت أن تقضي بعض الوقت مع والديها، وتركها تسافر دون مشكلة، طال مُقامها، وقلت اتصالاتها، ولم يقل شيئًا، كان أيامها يخوض غمار صفقة جديدة، ولم تسمح له مشاغله حتى برؤية شلة أصحابه، شهاب وحده، أقرب مقربيه، كان يأتي من حين لآخر إلى البيت ليطمئن عليه، ويشاركه بعض الأطباق اللذيذة التي تحضرها والدته لهما، الاثنان يعرفان بعضهما منذ الصغر...
عادت زوجته أخيرًا، رفقة والدها الذي بدا محرجًا للمدة التي قعدتها عنده، أوصى ابنته خيرًا بزوجها، وتركهما وهو يدعو لهما بالصحة والهناء، رجل طيب وعاقل، يعرف الأصول ويقدر العلاقة الزوجية.
لم يجبرها على العودة، لم يعاتبها حتى على ندرة اتصالاتها ولامبالاتها به، ورغم ذلك... عادت امرأةً أخرى...
تغضب لأتفه الأسباب، تتصيد الفرص لتخاصمه وتدير ظهرها له، تشتكي من ضغط عمله إن أتى بملفاته إلى البيت، ومن طول انشغاله إن تأخر في المكتب، ولا ترضيها مداعبته ولا أحاديثه ولا شكل هندامه، ولا حتى طريقة كلامه، صارت لا تطاق، وأصبح نكدها اليومي مسلسل عذاب وتجريح أفقده صوابه، وبدأ الحديث عن الفراق.
جمعت أغراضها ذات صباح، وغادرت إلى بيت إحدى قريباتها، وهرع والداها، وحاولا إصلاح الأمور... دون جدوى.
كان مستعدًا لتقبل أي حل، لكنه وجد نفسه، مثل والديها، لا يفهم كيف يرضيها ويقنعها بأن تعود كما كانت، وفي لحظة ما صار يطلب منها فقط أن تعود إلى بيتها.
ورفضت.
ورفعت دعوى طلاق، وتولى صاحبه شهاب مهمة تمثيله أمام القاضي.
شهاب أقنعه بأن لا مجال لأن يفرض نفسه على امرأة لم تعد ترغب بالعيش معه.
تم الطلاق بسرعة بفضل تفرغ صاحبه للقضية وتمكنه من التفاهم مع الزوجة ومحاميها في وقت قياسي.
حدث ذلك منذ عام بالضبط، والآن... الآن... كيف يفترض به أن يشعر والخبر الذي وصل إليه يجعل عفاريت الإنس والجن تتراقص أمام عينيه...؟
شهاب، صديقه الحميم الذي نقل أعماله منذ فترة إلى مدينة مجاورة، عقد قرانه على طليقته، الاثنان أمضيا شهر عسلهما في المدينة البحرية التي قررا الاستقرار فيها، وشهاب ينهي آخر تعاملاته هنا ويستعد للرحيل بشكل نهائي...
كيف يفترض برجل ذي دم حام مثله أن يتصرف؟ هل يضرب رأسه بالحائط؟ هل يصرخ حتى يتقطع صوته، ويكسر كل ما حوله؟ وهل سيشفي ذلك غليله؟
محال، لن يهدأ باله ما لم ينتقم منهما معًا.
وليبدأ بهذا الذي كان يزعم بأنه صاحبه...
منذ ساعات وهو ينتظره...
سيغادر المبنى، وسيجتاز الطريق ليصل إلى الموقف؛ حيث ركن سيارته، وسينطلق هو بعربته بأقصى سرعة، ويدهسه، ويحرق قلب اللعينة التي تنكرت له وخانته شر خيانة.
زخات المطر الرتيبة لم تتوقف، الوقت يمضي برتابة... ولا حس لصاحبه.
انتبه على صوت الأذان، كيف غفا...؟ نظر إلى الساعة، أذان الفجر، وشهاب...؟
تطلع إلى الدور الثاني؛ حيث مكتبه، الأضواء مطفأة، تفقد سيارته في الموقف، لا أثر لها، غادر اللعين دون أن يشعر به.
تنهد بغيظ، ثم استغفر الله وهو يستمع إلى الأذان.
ترجل من السيارة، ورفع ياقة معطفه ليحتمي من البرد والمطر، وتوجه نحو المسجد القريب.
ثمة طرق أسمى وأنقى لتطبيب الجراح..