عندما اتصلت ابنتنا رؤيا بنا، تقول إن شيئاً ما وقع... وإن المصعد توقف بها... طار زوجي من مكانه وجرى ونحن نتبعه. قال لي أخي للمرة الألف إن على رياض أن يرى طبيباً نفسانياً. هلعه غير الطبيعي على البنتين ينبئ بأن شيئاً ما لا يدور كما يجب بدماغه. قمت بإسكات راوية، رضيعتي ذات الثمانية أشهر التي حزمتها في خصري، وأسرعت الخطى وراء أخي دون أن أقول شيئاً.
لا أحتاج له ولا لغيره لأعرف أن زوجي يعاني من رهاب حقيقي.
خوفه الدائم على ابنتينا يثير حنقي.
رؤيا، الكبرى، تكاد تكمل عامها السابع عشر. والمسكينة تحاول منذ سنوات أن تقنع والدها بأنها لم تعد طفلة، وبأنها صارت قادرة على العناية بنفسها وتدبر أمورها دون الحاجة إلينا.
زمان، حين تزوجنا، كانت صديقاتي تحسدنني عليه، وتكررن لي بأنني محظوظة للغاية؛ لأنني عثرت على زوج مقطوع من شجرة، لا أمّ لديه تسمم عيشتي، ولا أب يحشر أنفه في حياتي، ولا عائلة تثقل كاهلي باللمات والعزومات والمناسبات الاجتماعية التي يحسب لها ألف حساب.
لا شيء من كل هذا. رياض رجل حر، وحيد، كبر في دار خيرية وكوّن نفسه بنفسه، وبنى مستواه الاجتماعي دون مساعدة من أحد.
الآن... وأنا أرى حبه لابنتينا وخوفه عليهما، واهتمامه بأمورهما الصغيرة والكبيرة، أشعر بأن وراء كل هذا خواء نفسياً خطيراً كبر معه. أخي، الذي جئنا لنقضي عطلة الصيف معه، انتبه سريعا للأمر؛ إذ تفاجأ بزوجي في الصباح الباكر وهو يغير حفاظة راوية ويثرثر بسعادة معها. كان كعادته يحكي لها عن مشاغله. شركة المحاسبة التي تركها في عهدة مدير مكتبه، زبائنه الذين سيضطر للغياب عنهم شهراً كاملاً، تعاقداته التي لن يشرف عليها، تنقلاتنا في كاليفورنيا، برنامج الزيارات التي يود القيام بها، وأشياء أخرى كثيرة. زوجي قليل الكلام، إن لم أقل منعدم الكلام تماماً معنا، أنا وأخي وعائلتي بشكل عام، بل وكل معارفنا. حديثه في العادة لا يتجاوز الكلمة والكلمتين. ولكن مع البنات... خصوصاً الصغيرة... الأمر يختلف. رؤيا تكبر، وتحاول التخلص من وصايته. وهي لهذا السبب لا تعطيه فرصاً كثيرة للكلام معها. لديها عوالمها الخاصة. موسيقاها، صاحباتها، خروجاتها ودراستها. أما راوية فلا تزال صغيرة، لا تفهم، ولا حتى تتحدث.
سألني أخي بذهول: كيف يتحول زوجي إلى جهاز إذاعة مع الرضيعة؟ لم أجد ما أقوله له حينها.
بعد وصولنا ببضعة أيام، خرجنا في نزهة في شوارع ساكرامنتو الجميلة. قال أخي إنه سيأخذنا إلى متحف الفن والإثنيات، وفضلنا المشي على الأرصفة المظللة بأشجار الزان والمغنوليا الوارفة المحملة بأطنان من الأزهار الوردية الخلابة. وفي لحظة ما، ونحن نجتاز الطريق، صرخت رؤيا وجرت كالمجنونة إلى الرصيف الثاني، وهي تشد سماعتي أذنيها اللتين لم تغادرا مكانهما منذ استيقاظها. توقفت السيارات، ونظر المارة بقلق إليها، وجرى والدها خلفها وأخذها في حضنه وهو يرتجف. لم نفهم شيئاً في البداية، لكن البنت تخلصت من قبضة والدها ونزعت سماعتيها، وهي تلعن العالم وتنعت نفسها بالغبية. مغني الموسيقى الصاخبة التي كانت تنبعث من سماعتيها كان يصرخ «انتباه... خطر... خطر...» وهي ظنت أن أحداً ما ينبهها إلى الطريق.
حوّلنا الموقف إلى نكتة، وضحكت كثيراً مع أخي، لكن زوجي ظل صامتاً بوجوم.
ولم تحد عيناه على ابنته.
وصلنا حيث توقف المصعد، بين الطابقين العشرين والحادي والعشرين. اتصل أخي بفريق الصيانة، وأخذ زوجي يضرب باب المصعد وينادي على رؤيا. لم تجبه. بدأت أتصل بها بالهاتف، وحولت على علبة التسجيل. حاول زوجي أيضاً الاتصال من هاتفه دون جدوى. ضرب الباب من جديد، وقد بدأ يفقد أعصابه. طمأننا أخي بأن عامل الصيانة قادم، ولكن زوجي تعلق بالباب وهزه بعنف دون أن ينجح في تحريكه. أخذ يصيح بأنه متأكد من أن مكروهاً ما حصل للبنت. ربما نقص في الأكسجين أو شيء من هذا القبيل. ضحك أخي ساخراً من الفكرة وازداد توتر زوجي. صرخ بأنه متأكد من أن البنت ليست بخير. حاولت طمأنته، وأخذت الصغيرة تبكي، وانهار زوجي في النهاية، وأخذ يبكي هو الآخر ويضرب باب المصعد ويصرخ وكأن أحداً يذبحه. صار الوضع مقلقاً فعلاً، وأطلّ بعض الناس، وقال أحدهم إنه سيطلب الأمن، وصرخ زوجي من جديد و... أغمي عليه.
لحظات وتمكن عامل الصيانة من فتح باب المصعد.
خرجت رؤيا وهي تلدغ العلكة، وسماعتاها مسمرتان على أذنيها.
وهي تبتسم.
«كانت تجربة مثيرة».. قالت لنا، ونظرت إلى والدها المرمي أرضاً، وعامل الصيانة يطلب الإسعاف له. «ما به بابا؟» سألتنا بفضول. وهزّ أخي رأسه وهو يقلب نظراته بين ابنتي الكبرى غير العابئة بشيء، والصغرى التي لم تتوقف عن البكاء، ووالدهما الغائب عن الوعي، ونصحني: «ينبغي أن تراجعوا جميعاً طبيباً نفسياً. ثمة خطأ ما في هذه العائلة...».
لم أجد ما أقوله. لم يكن مخطئاً تماماً.