لأنني وحيد أريد العيش، أريد البحث مراراً عني، أن أطرق الأبواب، أن أجوب كل درب وكل مدينة، أن أسأل المارّة، أن أعرفني من ذاكرتهم، أن أحدق في ملامحهم وهم يصفونني بابتذالٍ أو حتى بعتب، بتعب، بحب.. لقد عشتُ وحيداً جداً، للحد الذي يخيّل إليّ فيهِ بأن لا أحد سيعرفني مجدداً حينما تنتهي عزلتي الآسنة، إنه لمن الصعب جداً أن تمكث طويلاً في عزلتك، بينما العالم يشرّع أمامك الحياة بشسوعها.
أنا متوقدٌ باندفاعي، بهطولي المباغت على مساحات الرتابة، أنا إنسان أحب أن أمسح من على وجه الحلم دمعه الحار دون أن يجترح الذكرى، أنا أتكاثر برغمٍ عن وضع البشرية المهدد بالانتهاء، رددتها بداخلي كتعويذةٍ تقيني من الليالي العجاف، من لحظات الضعف المتكررة، من الوهن الذي قد يصيبني في غمرة ترقبي لخبرٍ يعلن للعالم عن نجاة هذه البسيطة بأقل الأضرار الممكنة.
ككل الفترات التي عايشتها بمعية الانتظار، كنت أترقب هذا الخبر بفرحةٍ لا تتكرر؛ فأنا قد علمتني العزلة أن اللحظة التي قد نعيشها بكلِ عاديّة، هي من أصدق اللحظات التي قد تمر بنّا إطلاقاً، كم أنا مستعدٌ يا الله للاحتفال، لتقبيلِ يدِ الجدات، للجلوسِ طويلاً أمام عتبة المنزل أصافح هذا وأسأل عن أخبار ذلك؛ محاولاً طمس ما عشناه من صمت ومن وحدة، مستعدٌ جداً أن أربت فوق ظهر تعب الآباء طيلة الفترة الماضية، فقط فلتنتهِ هذه العزلة يا الله.
أنا أكتب، أكتب كلّما تمكن مني الخوف، أكتب ليبقى حرفي على الأقل حاضراً طيلة العمر، غيرَ مكترث لأية عزلة، أكتب ليحلق حرفي كنورسٍ جائع للحياة بين نافذة ضوئية وأخرى، ينتشر، يتفشى، يجد مطرحاً دافئاً بين أعين من يقرأه، يتمدد في المكان القصيّ في دواخلهم ويبقى هناك، أكتب حتى ينتهي هذا الصمت المطبق على خير.