فاجأتنا إدارة الشركة الفرنسية التي نعمل فيها، ببرنامج مكثف للتدريب على تطوير مهاراتنا في التواصل من أجل «الارتقاء بعملنا الجماعي، وتحقيق قفزة نوعية في السوق»، كما أخبرتنا مسؤولة البرنامج، شركتنا متخصصة في الدعاية والإشهار، واسمها معروف، وزبائنها كثر، لم نكن بحاجة لمزيد من التحفيز؛ فنحن نعمل بجد ونجني ثمار جهودنا، ولكننا لم نُستشر في الموضوع، ولم تكن ثمة إشارة من الإدارة لإمكانية إعفائنا من حضور فقرات البرنامج.
كانت هذه مشكلتنا، ساعات العمل طويلة، ومتطلباته مرهقة، واضطرارنا لحضور دروس مسائية إضافية، كان عقوبة بالنسبة لنا، صحيح، المدربة الفرنسية سيدة ودود، تطعّم محاضراتها بكثير من النكات والقفشات والألعاب المسلية، التي تكسر روتين النصائح والخطوات التي تقدمها لنا لتحسين مهاراتنا التواصلية، صحيح أيضًا أن الشركة وفرت لنا بوفيهًا مسائيًا فاخرًا، ننتظر كل يوم لحظة انطلاقنا نحوه لنهجم عليه كما لو كنا على وشك الموت جوعًا، صحيح.. هناك موسيقى هادئة في القاعة التي نجتمع فيها.. هناك أيضًا مقاعد وثيرة وإنارة مريحة وجو حميم وضحك ودعابات وكل شروط الاسترخاء.. ولكن.. لكل منّا أسرة وحياة خارج العمل، نضطر لاختزالها في ساعات النوم الليلية وفطور الصباح، مشاغل الشركة ومتطلباتها بدوامها اليومي وبرنامجها المسائي، أبعدنا عن حياتنا الأخرى، وعزلنا عن أحبابنا.
تذمُّرنا وصل سريعًا إلى مدربتنا عبر صندوق بريدها غير الاعتيادي، الذي أعلنت ولادته منذ أول يوم تدريب، الفكرة كانت بسيطة: لمزيد من التواصل بيننا كأفراد عائلة واحدة، موظفين وإداريين، حولت إحدى أشجار الحديقة الخلفية التي تنفتح عليها قاعة الاجتماعات إلى «صندوق بريد جماعي»، نعلق على أغصانها ملاحظاتنا ورغباتنا وتمنياتنا وانتقاداتنا في شفافية تامة وصفاء ونقاء سريرة، وبدأت بنفسها، كتبت شيئًا على ورقة ملونة وربطتها بخيط علقته على أحد الأغصان، ودعتنا لنصنع مثلها، متى شئنا، كيفما شئنا.
كثرت الملاحظات، وتحولت شجرة البرتقال المزهرة إلى شجرة عيد ميلاد زاهية مزينة بعشرات الأوراق الملونة المتطايرة مع نسمات الخريف الباردة، وصار ترددنا عليها روتينًا صباحيًا مسليًا، وهناك، بين أزهار البرتقال وبراعم الأغصان وأوراق الشجرة والرسائل الملونة المختلفة الأشكال والألوان.. لمحتها، ورقة زرقاء صغيرة مقصوصة على شكل زجاجة، ومكتوبة بخط صغير، بالكاد يمكن تمييزه على سطح الورقة الداكن: «رسالتي الأولى.. رسالة في زجاجة رميتها في البحر.. بحر عينيك، هل ستلتقطينها؟».
ابتسمت ونظرت حولي، أحدهم أخطأ في العنوان، وظن أن الأمر يتعلق ببريد عشاق..
مر يوم أو يومان، وتذكرت الرسالة الغريبة.. وبحثت بفضول بين الأوراق التي تضاعف عددها.. و.. يا للعجب.. لمحت رسالة أخرى شبيهة بالأولى، مندسة بين الأغصان: «رسالة ثانية.. زرقتك عميقة.. ومظلمة.. وظالمة.. وأنا أغرق فيها..». ما هذا العبط؟ تساءلت بصوت عالٍ، وردت عليّ زميلة وقفت بجانبي: «عبط؟ لا أظن ذلك، المسكين عاشق ولهان...».
التفتت ضاحكة إليها، وغمزت لي وهي ترمقني بخبث: «يتحدث عن الزرقة.. زرقة عينيك ربما...أنت الوحيدة صاحبة العيون الملونة في الشركة.. أليس كذلك؟»،
ازداد شعوري بالسخف، وابتعدت وأنا ألعن في خاطري صاحب الرسالة.
ماذا.. هل تحولت الدورة التدريبية إلى فيلم هندي؟
توجهت في اليوم التالي رأسًا إلى الشجرة، وكانت الرسالة الثالثة بانتظاري. «أحيانًا.. نحتاج إلى أن يزيل الآخرون الغشاوة عن عيوننا، لازلت أنتظر، هل سأبلغ وإياك شاطئ الأمان؟».
إمضاء: «واحد من الناس.. لا يملك من الجمال غير اسمه».
ما هذه الألغاز؟ استدرت بانفعال، وفوجئت بمسؤول الإدارة المكلف بمرافقة المدربة يشرئب بعنقه خلفي..
«بعضهم يفضل التشهير بالناس عوض مخاطبتهم بشكل مباشر.. هناك شيء اسمه الهاتف.. وهناك وسائل أخرى للاتصال..» قلت بنبرة حانقة، ورد الرجل: «للرسائل المكتوبة بخط اليد عبق خاص..».
حملقت فيه غير مستوعبة، وابتسم ملء فيه، ومد يده إليّ: «أعتذر.. أنا جمال.. الذي لا يملك من الجمال غير اسمه».
تملكني الذهول.. مسؤول الإدارة..؟
«أود حقًا التعرف أكثر عليك، هل تقبلين دعوتي للعشاء؟».
شعرت بأنني أطير، وابتسمت ببلاهة وقد نسيت كل ما قلته، وأمسكت يده..